Потерянный человек
الأول من أكتوبر ، 2019
استيقظت باختياري لأول مرة منذ بدء الرحلة لا بإجبار سايا ولا جيمس ولا غيرهما ، و زاد من لذة الاستغراق في النوم كون هذا اليوم الأبرد كذلك و قد ارتدى جميع ركاب القطار أثقل معاطفهم. أما رن فخارج الغرفة يعد كل ما أُلحق بقطارنا من مقطورات في محطة تشيتا ليضيف تلك المعلومة إلى مفكرته. أمضيت ما أنعمني به الله متقلباً على السرير بخواء حتى انتزعتني منه طرقات خافتة على الباب. لم تكن تلك طرقات أصابع بوروف الأشبه بالنقانق ، و بوروف لا يطرق الباب إلا بعد اقتحام الغرفة على أية حال. فتحت الباب لأجد طفل العائلة المجاورة لي يقول بالإنجليزية أن والده يدعوني لتناول الطعام معهم.
جاورتنا عائلة الـ(هي) منذ بداية الرحلة أحسن جيرة ، و أرادوا اليوم التعبير عن عرفانهم بالجميل لي و لرن فكانت الطريقة الوحيدة للتعبير عنه في جعبتهم هي مشاركتنا الطعام ، و هي طريقتي المفضلة على أية حال. تؤمن جدة عائلة الهي أن طبخ كل من سواها قمامة ساخنة لا تستحق النظر إليها حتى ، و بالتالي أحضرت مع عائلتها في محطة بكين من طبخ يدها المعلب ما يكفي لإنهاء المجاعات عالميًا لأسبوع كامل. واظب آل هي على إمدادي و رن بالطعام كل وجبة منذ بداية الرحلة من باب الجيرة ، و لكن أحداث الأمس أقنعتهم بوجوب دعوة رسمية على غداء اليوم. لم يتحدث أحد منهم الإنجليزية سوى طفلهم الصغير ، و لكن الجدة طلبت منه تعليمها كلمتين ظلت ترددهما علي طوال تلك الظهيرة: “كُل هذا!”

شعرت رغمًا عني بالشفقة تجاه تلك العائلة الظريفة ، فقد رأيت نفس هذا السيناريو مئات المرات و أعرف كيف ستنتهي هذه الحكاية قبل أن تبدأ. الجدة في الغالب هي القاتلة ، فقوانين قضايا من فعلها العتيدة توجب أن يكون القاتل أخر من يخطر على بال المحقق (هذا أنا ، تصفيق رجاءً). و من على هذا القطار أقل إثارة للريبة من عجوز ثمانينية وديعة؟ حينما تحين لحظة الصفر و مشهد الصالون سأضطر إلى كشف الفظائع التي اقترفتها جدتهم أمام العائلة كاملة ، و هذا في الغالب سيحطم قلوبهم و علاقتنا معًا. قد تكون دوافع الجريمة التي ستقترفها الجدة مفهومة أو مثيرة للتعاطف ، و لكن الجريمة تبقى جريمة ، و مهمتي كمحقق هي أخذها و أمثالها إلى وراء القضبان و تحت قبضة العدالة. أيقنت حينها أن علاقتي ستتحطم مع هذه العائلة بتحطم قلوبهم لا محالة ، و لذا علي تعبئة معدتي من طعامهم ما دمت لا أزال ضيفًا مرحبًا به ، فالجدة رغم ميولها الإجرامية كانت طباخة بارعة يحق لها ازدراء مهارات الغير.
زحفت مغادرًا غرفة العائلة رغم محاولات الجدة حشيي بالطعام حتى الموت ، و ربما كانت تلك جريمتها الأولى. وصل قطارنا للتو إلى محطة أولان-أودي حيث سنلتقي بالقطار المنغولي وهلة ثم يكمل كل منا طريقه. يبدأ القطار المنغولي رحلته مثل قطارنا K19 هذا من بكين متجهًا إلى موسكو عبر منغوليا ، أما قطاري فيقطع نفس الرحلة دون المرور بمنغوليا. ترجلت من القطار إلى المنصة حذرًا مخافة أن أقع و يكسر عنقي ، فقد غيرت عجلات القطار حينما قطعنا الحدود من الصين إلى داخل روسيا بالأمس بسبب فرق عرض السكك الحديدية بين الدولتين. يعزي البعض هذا الفرق إلى أيام الحرب الروسية اليابانية ، بزعم أن روسيا غيرت عرض سككها خوفًا من أن يتمكن خصومها من الاستفادة منها لو خسروا شيئًا من أراضيهم خلال الحرب. لم أجد مصدرًا وثيقًا بعد يورد هذه المعلومة و لكن الجميع من رن و حتى قائد القطار نفسه يقسمون عليها أغلظ الأيمان . الفرق الآخر بين العجلات الصينية و الروسية هو ارتفاعها عن الأرض ، الصينية تجعل باب المقطورة على مستوى المنصة أما الروسية فمرتفعة تجبرك على الترجل من سلم صغير للوصول إلى المنصة. و لما كنت لم أعتد بعد على فرق الطول هذا رغم مرور يوم على تغيير العجلات ، ارتأيت في مستقبلي إصابة موجعة قد تنهي مسيرتي التحقيقية.
محطة أولان-أودي مزدحمة على الدوام لكونها المحطة الأقرب إلى بحيرة بيقال ، و هي بحيرة عظيمة جمعت من الأرقام القياسية ما وجب أن تخجل على أثره بقية بحيرات العالم. فهي الأعمق و الأقدم و الأكبر بين بحيرات الماء العذب ، و فيها ما يقارب ربع مخزون العالم من المياه العذبة السطحية ، لتتفوق بهذا على بحيرات شمال أمريكا العظمى الخمسة لو صبت سوية في أخدود واحد. أمضى قطارنا ثلاث ساعات من الزمن محاولًا الالتفاف حول جزء لا يذكر من محيطها ذلك اليوم.

تبعًا لاقتراح رن طفنا في القطار بحثًا عن النافذة المثلى لمشاهدة البحيرة خلال تلك الساعات الثلاث و قادنا بحثنا إلى مقطورة الطعام الروسية. عندما توقف قطارنا بالأمس في محطة تشيتا اندمج مع قطار 001 الروسي ليكونا معًا قطارًا واحدًا عملاقًا استمر في سعيه الحثيث نحو موسكو ، و صرنا بالتالي قادرين على استعمال مقطورة طعام القطار 001 الروسية بدلًا عن مقطورتنا الصينية التي خلفناها عند الحدود. ازداد عدد مقطورات قطارنا الآن بعد اندماجه إلى خمس عشرة مقطورة سال لها لعاب رن مفكراً بما يمكنه تدوينه عنها في دليله. أما المطعم نفسه في تلك المقطورة فبدا غير مكترث بتحقيق أي ربح مادي أو في تقديم الطعام أصلًا ، فالخدمة عليه كانت من البطء إلى أن تتناول مقبلات وجبتك في وقت الإفطار و طبقه الرئيسي في وقت الغداء. و أحد المتسببين بهذا كان نادله الروسي الذي أمضى وقته بالتأكيد للزبائن بأنه سيتلقى طلباتهم فور أن ينتهي من الاستماع إلى هذه الأغنية على هاتفه. على عكس المتوقع لم يمانع أحد ذاك البتة باسثناء بعض النكات العابرة ، فالدقائق على القطار كالساعات و الساعات كالثواني.
ما إن دخلنا المقطورة بحثًا عن مقعد قفزت كينتشاو من طاولة في آخرها بحماس ملوحة لتدعونا إلى مشاركتهم المائدة. و على قدومنا تنحت عن الطاولة خطوتين لتشير إليها بشكل مسرحي كمقدم العروض في السيرك و تعلن بصوت جهوري: “سيد عمر ، يسرني أن أقدم لك أخطر مجرم عالمي شهده تاريخ هذا القطار و روسيا جمعاء!!” استرعى كلامها جل انتباهي طبعًا و إن حاولت ، و فشلت ، في اصطناع البرود و الملل. على حد علمي لم تعرف كينتشاو حقيقة رن الجاسوسية ، و لذا فهي لابد تتحدث عن مجرم أخر. صحيح أن مطاردة المجرمين خلف الحدود و اعتقالهم من صميم عمل المفتشين أكثر من المحققين ، و لكن خلو الرحلة من الجثث إلى يومنا هذا أجبرني على الرضوخ للأمر الواقع و الرضى بما أعطيت.
أشارت كينتشاو باصبع درامية إلى كهل على الطاولة ، ممسكة بطبق من الطعام بين أطراف إصبعيها بيدها الأخرى كما يحمل رجال السيرك قبعاتهم الطويلة. أخبرتي حدس المحقق في فورًا أن يون (52 سنة) ليس قاتلًا و لا جاسوسًا ، و لكنه قادر على تزعم عصابة دولية أو ما شابه. أضافت كينتشاو أنه واجه رجال الشرطة في زابايكاسك و لم ينج من الموقف إلا بعد دفع غرامة ضخمة. فهمت على الفور أن “الغرامة” هنا تعني أنه قد رشاهم ، فكينتشاو بذكائها تتجنب كشف حقيقة فحوى محادثتنا لبقية من في المطعم من زبائن – و جواسيس – فضوليين. و قبل أن ألتفت إلي رن لأخبره بضرورة تعلم أساليب التشفير و كتم الأسرار منها شرحت كينتشاو قائلة أن يون دخن سيجارة في منطقة ممنوعة سهوًا في زابايكاسك فاضطر لدفع غرامة قدرها ألفا روبل روسي ، أي ما يعادل المائة ريال. خمنت هناك أن “التدخين” شفرة تعني أنه أحرق منزل أحد خصومه أو أهدافه ، و أن مبلغ الرشوة في الواقع أكبر من المذكور بكثير ، و لكنني لم أفهم بعد لم قد يشاركون هذه المعلومات معي. صحيح أنهم لا يعرفون إخلاصي الذي لا يتزحزح للحق و العدالة أو كوني محققًا أصلًا ، و لكن أكانت تلك دعوة منهم للانضمام إلى عصابة يون؟ و هل كينتشاو أصلًا جزء من تلك العصابة؟

قاطع أفكاري – بكل وقاحة – ارتطام مفاجئ بعد أن حشر أحدهم جسده في الطاولة الممتلئة أصلًا ، ذاك جيمس مجددًا ، يعرف عن نفسه و عن كاميراته مرة أخرى. رغم مناوشاتنا السابقة كانت تلك المرة الاولى التي أشاهدها فيها بوضوح في ضوء النهار ، و استوعبت حينها أن جيمس مخمور. بل و استوفى جميع مواصفات المخمور من حمرة العيون و نتانة النفس حتى لم يحد بينه و بين الانضمام إلى طاقم مسلسل عربي تاريخي بدور أحد كفار قريش إلا بشرته الأوروبية. و استوعبنا حينها أن جيمس كان على هذه الحالة المشينة منذ بداية الرحلة و حتى الآن ، و لذا واصل تقديم نفسه المرة تلو الأخرى لنفس الأشخاص دون أن يسجل ما تبقى من دماغه لقائهم أصلًا. يقول شريك جيمس في غرفته هنا أن تصرفات جيمس و سكره تبعات قصة حب فاشلة يحاول نسيانها ، و لكن بدا من الواضح ألا أحدًا سوا جيمس نفسه وجد في هذا عذرًا ملائمًا. لذا ، و قبل أن يستقيم جسد جيمس على الطاولة حتى ، غادرناها جميعًا ليترك جيمس عليها وحيدًا محملقًا في زجاجة خمر بين يديه بمشهد قد يخلده فنان متحذلق في لوحة باسم الكسير أو ما شابه.
بمغادرتنا المقطورة كانت الشمس قد زالت و انتصف القمر في السماء. لم أبالغ لحظة في حديثي السابق عن بطء الخدمات على مقطورة الطعام. لذا تمنينا مساءً سعيدًا مبكرًا للجميع و عدنا إلى غرفتنا. عكف رن على مفكرته ليسجل بها دقائق ما شاهده في البحيرة ، بينما بدأت أنا بتدوين أحداث الأيام الماضية في مذكرتي. استمرينا بالكتابة على نفس الطاولة بصمت حتى فرغ الحبر من قلمي فقدم لي رن قلمًا آخر أسود دون أي تعليق. مدعيًا الطرافة أجبته بأن من المستحيل أن أوصل الكتابة بالأسود ما بدأته بالأزرق ، فضرب رن على جبهته كمن نسي شيئًا بديهيًا و أخرج قلمًا أزرقًا من متاعه على الفور.
إن لم يكن هذا واضحًا بين سطور رسالتي حتى الآن ، فأنا هنا أصرح بأن هذا الرجل يثير في من الإعجاب قدر ما يثير من الحب.
للتو أنهيت هذه التدوينة الرسائلية أو التدوينات إن صح التعبير وفضلت التعليق في لحظتها لحضور المعنى..
عندما تكون الرحلة في المركبة لا الوجهة سيكون الأمر مختلفًا كما هو هنا.
قرأتها على فترات متقطعة فوجدت الكثير من المعرفة والزخم الثقافي والتاريخي والأدبي والمحصّل اللغوي فضلًا عن انفراط الكثير من الضحك القلبي. أحببت مزج المعلومة بواقعيّة التوثيق اليومي ونكهة التشويق البوليسي . هذا الطابع المتمازج جدير بالإشادة كونه حرّك فضولي للرجوع للخريطة والمعجم اللغوي وأسماء بعض المدن وقادني للترويح والفكاهة اللطيفة. أرى بأن تدوين هذه التفاصيل متعة لكاتبها وقارئها معًا، كما ستكون مرجعًا للمهتمّين.
شكرًا على هذه التذكرة المجانية لقطار K19 التي قلّتنا على متنه وأوردتنا تفاصيله وتفاصيل ركّابه التي لم تكن لتغدو بهذا القالب لولا شفرتك الخاصّة في التدوين. دمتَ مُدوّن شغوف.
إعجابإعجاب
جريمة القطار السيبيري العظيم، تقرأ العنوان للمرة الأولى مشددًا على الجريمة العظيمة، وبلا أي أحكام مسبقة أو تصورات فتخالها ليست أكثر من قصة خيالية كُتبت لتطويع جموح ساعات الملل على متن القطار أو انتهازًا للدهشة حال أخواتها من القصص على وجه العموم..
إلا أن المعنى كان أجزل، أي نباهة إنشائية قادرة على تحوير حدث قد لايعدو كونه حدث عَرَضي مساند للحبكة
إلى حدث رئيسي؟
استمتعت كثيرًا، و نسبة كبيرة من هذه المتعة تعود لكون الشخوص مرئية “حية لا مختلقة” على نقيض بقية القصص إلا أن هذا لم يمنعني من تخيل حركاتهم وسماع جلبة القطار متزامنة مع صخب/بطء أحاديثهم حسب شدة الضوء الأخضر للأحداث…
رائعة جدًا لا لكونها بديعة كمادة قراءة فقط بل لقدرتها على تجاوز زخم الاعتيادية كصور ولحظات حاضرة بالذهن كذلك …
في انتظار المزيد من الرسائل..
إعجابإعجاب