جريمة القطار السيبيري العظيم


Тайна сибирского поезда

الثالث من أكتوبر ، 2019

جلست على سريري مواجهًا رن على سريره ، و كلانا متعاقد الذراعين و الساقين و الأفكار. اكتشفنا ذلك الصباح كيسًا أخرًا تحت سرير رن مطابق للكيس تحت سريري لم يعرف رن وجوده هناك أيضًا. المساحة تحت السرير حيث وجدنا الكيسين تعيق الطاولة النظر إليها في أغلب الأحيان ، و لذا لن يرى المرء الكيسين في الغالب ما لم يكن يبحث عنهما أصلًا. بناء على تقديرات رن لابد أن الكيسين ظهرا في غرفتنا خلال تواجدنا في المطعم بالأمس لكونه لم ير كيسه حينما نظف المساحة تحت سريره صباح الأمس كما يفعل كل يوم. تلمسنا محتويات الكيسين فوجدت في كيسي علبًا بلاستيكية و في كيس رن صناديقًا من الورق المقوى ، معلومات عديمة الفائدة. 

رفض رن قطعًا فتح الأكياس لرؤية ما بداخلها ، مخافة أن يورطه هذا في مهام جانبية تشغله عن تحقيق هدف مهمته التجسسية الرسمية طبعًا. وافقت رن في رأيه و إن خالفته في أسبابه ، ففتح الأكياس أو تحريكها من مكانها كفيل بتنبيه من وضعها هنا عما فعلناه عندما يأتي لاستعادتها. و رغم أن الأكياس مربوطة بعقدة بسيطة سهلة الفك و العقد ، إلا أني كنت واثقًا من أن العقدة مدعمة بشعرات تقطع عندما تفتح أو خيوط شفافة تفعل المثل. كل مجرم يعرف أن هذه هي الطريقة المثلى لتفخيخ مقره و ممتلكاته ضد المتطفلين ، و عرين كل مجرم فيه من الغالب من الشعر المتناثر ما يفوق ما في مشط فتاة كثيفة الشعر. أما من لا يفعل هذا من المجرمين فغر لا يستحق أن أضيع وقتي في التحقيق في قضيته حتى. 

شهدت تلك الغرفة أطول و أكثر نقاشاتنا جدية ذلك الصباح

قطعت تحقيقنا رسالة من نصية من يونتشين تسألنا فيه عما إن كنا نود لعب الورق مجددًا في مقطورة الطعام. أرسلت يونتشين رسالتها نصيًا كـSMS نظرًا لتحسن إرسال الهواتف كلما اقتربنا من أوروبا ، و لما كنا الآن نقطع سلسلة جبال أورال الفاصلة بين آسيا و أوروبا كاد الإرسال يوافق مثيله في المدن مؤقتًا لأهمية هذه المنطقة. وافقت على عرض يونتشين مؤمنًا بأن على كل متحر الانخراط  فيما  يروح عن نفسه و يترك لخلايا عقله الرمادية الفرصة لتعمل بهدوء و تفك شفرة قضيته الحالية. شيرلوك هولمز اختار الترويح عن نفسه بالمخدرات و الهرويين ، لذا أخال خياري أذكى منه. 

بدأت لعبتنا في المطعم مع لعبة  دوراكا مجددًا و استمرت لعدة ساعات ، اقترحت خلالها كينتشاو – خلال تقمص الدور الدفاعي في اللعبة – أن نستكشف موسكو سوية ما إن نصلها في الغد. وافقت مع البقية على فكرتها ، و لكني عرفت أن اقتراحها كان مجرد استراتيجية لتشتيت أنظار الجميع عن دعم هجومي عليها بثلاثة إكّات Ace. و عندما فشلت استراتيجيتها تلك بدأت بقص قصة عن أبويها في المرحلة الابتدائية  و كيف علقت الحكومة الدراسة وقتها لتسخير جميع الطلبة في حفر ملاجئ نووية أيام الحرب الباردة و خوف الصين من هجمات نووية على أرضها. لم تنجح تلك القصة أيضًا في تشتيت بالي ، فتلك كانت جولتنا الأخيرة قبل العودة إلى غرفتنا و قد أقسمت لنفسي أن  أذيقها طعم الهزيمة اليوم قبل الغد. 

انتهت تلك الجولة بفوز محسوبكم طبعًا ، و لا خيار لك سوى تصديقي فأنا الراوي الوحيد هنا

خلال عودتنا إلى غرفنا بعد وصول القطار إلى أول محطة بعد الظهيرة اضطررنا للانتظار  عدة دقائق حتى يركب بوروف المقطورة و يعبر الممر بصندوقه العملاق المليء بالطعام. ناتاشا زوجة بوروف تكره الوجبات السريعة و ذاتية التسخين و مقطورة الطعام ، و لذا دأبت هي و زوجها على شراء وجباتهما طازجة و تعبئتها صندوق طعامهما العملاق ثالث كل محطة توقفنا عندها ، متبادلين مهمتي إحضار الطعام من المحطة و الوقوف حارسًا عند باب المقطورة. يأخذ المحصلون تذاكر الركاب في محطة بكين ، و لذا يكون الركاب بدون إثبات لانتمائهم  إلى المقطورة سوا تذكر المحصل لهم شخصيًا ، و لهذا وجب ألا يتحرك المحصل عن باب المقطورة حال وصول القطار للمحطة. 

لم أفاجأ  البتة بعد دخولي الغرفة حينما وجدت أن الكيس تحت غرفتي قد اختفى ، و إن بقي كيس رن في مكانه. أخبرتنا يونتشين و كينتشاو في المطعم أنهما اكشفتا اختفاء الأكياس صباح اليوم ، و لذا توقعت أن تتلاشى أكياسنا بعدها بقليل. في بالي بعض النظريات عن حقيقة ما يحدث هنا و لكني احتجت إلى المزيد من الوقت و الهدوء لترتيب أفكاري و الوصول إلى الحقيقة. 

إلا أن كل دقيقة من الهدوء و الصمت في مقطورتنا إهانة شخصية لبوروف كما يبدو ، فمحاولاته المتواصلة لبيع بضاعته علينا لم تزدد إلا إلحاحًا الآن و قد بقي على نهاية الرحلة أقل من أربع  و عشرين ساعة. مرارًا اقتحم بوروف غرفتنا في مشهد  مسرحي متكرر يغير فيه ملامح وجهه على مرأى غرفتنا كمن شم شيئًا نتنًا يعرض بعدها علينا استعمال الـ”دش دش!” و قد ارتفع سعره إلى مائة و خمسين روبل (حوالي السبعة ريالات و خمسين هللة) بعد دخولنا الأراضي الروسية. إلا أن إصرار بوروف لم يزدني إلا عنادًا. أذكر مثلًا أني قبل ركوب القطار قرأت شيئًا عن الكوب التذكاري الذي يباع عليه ، كوب من الزجاج و الحديد نقشت حوله صورة للقطار السيبيري ذاته. سعر ذاك الكوب أقل من الأربعين ريال ، و قد نويت شراءه قبل بداية الرحلة حتى أحجمت عن ذاك القرار الآن لإغاظة بوروف لا أكثر. 

لحسن حظنا استدعت رئيسة المحصلين بوروف فأطلق سراحنا في الوقت المناسب للخروج إلى الممر و مشاهدة لحظة عبورنا إلى قارة أوروبا. حسب خرائط الحكومة الروسية الرسمية ، يحدث ذاك العبور في كيلومتر السكة رقم 1777 من موسكو ، حين توجه القطار إلى محطة يكاترنبرغ في مدينة سفيردلفسك. يوضح ذاك العبور عند النقطة المذكورة مسلة بيضاء روسية الصنع بسهمين أخضرين يشير كل منهما إلى إحدى القارتين. عبورنا هذه النقطة في وضح النهار لرؤية المسلة و تصويرها توفيق رباني فأغلب القطارات تقطع هذه النقطة في جنح الليل ، و شاهدنا من نافذة القطار بضع أشخاص يجدون الخطى نحو المسلة طلبًا لتصويرها باعتقادي فالمنطقة لا تمر بأي مسارات جبلية معتادة. و بالطبع عرف رن مسبقًا الكيلومتر الذي سيمر به القطار بتلك المسلة و عكف على انتظاره منذ الصباح هذا اليوم. 

المسلة الفاصلة بين آسيا و أوروبا ، و ما لا تراه في الصورة هو بكاء و عويل رن المتحمس على هذا المنظر

حال تجاوزنا للمسلة اقتحمت رئيسة المحصلين مقطورتنا ساحبة بوروف من أذنه (مجازًا لا حرفيًا) إلى الغرفة المجاورة لنا و بدأت بالإشارة داخلها و الصراخ بالروسية. أعتقد و الله أعلم أن المقابلة الوظيفية للعمل على هذا القطار تتضمن قسمًا عن التأشير و الصراخ ، فبين صراخ المحصلة الآن ، و “دش” بوروف ، و “دوراكا” أليكس ، أظهر غالبية الطاقم مهارة لا تضاهى في هذا المجال. الغرفة التي أثارت غضب الرئيسة كانت غرفة جيمس المجاورة لغرفتنا مقابل غرفة عائلة الهي ، و التي غدت فارغة منذ فوت جيمس القطار و نزل شريكه في بحيرة بيقال. كانت الغرفة نظيفة فعلًا و لكن في حالة عارمة من الفوضى ، فناتاشا تكنس الغرف يوميًا على عجالة و لكنها لا تعتبر الترتيب جزءًا من مهامها اليومية. و بالتالي كان لبوس الفراش و الوسائد مبعثرة داخل الغرف و بينها ، و نقلت أحيانًا بين الغرف أو اختفت حتى ، و هو ما أظن  رئيسة المحصلين غاضبة على إثره الآن. تحت جام غضبها انكمش بوروف و احمرت أذناه حتى كادت تنضحان بالدم مقاومًا دموع الحزن على صورته في أذهاننا التي اهتزت الآن بعد أن أمضى الأيام الماضية كلها في تصوير نفسه بهيئة الآمر الناهي هنا. 

انسحبت مع رن إلى غرفتنا مخافة أن تطالنا طلقة طائشة من غضب الرئيسة و أغلقنا الباب ورائنا و كدنا ندعمه بالحديد لو وجدناه. كنت خائفًا وقتها من ضياع فرصة معرفة ما في الكيس تحت سرير رن و قد غدا أخر كيس نعرف بوجوده على هذا القطار ، و لذا فتحته بحذر رغم كل اعتراضات رن. أخرجت أحد الصناديق من داخل رن و فتحته كذلك لأجد بداخله صندوقًا معدنيًا معلمًا بشعار ماركة صينية معروفة للشاي. لم يحتوي ذاك الصندوق سوى أوراق الشاي مهما قلبته بحثًا عن أدراج مخفية أو رسائل سرية ، و لم تبدو أوراق الشاي نفسها خارجة عن المألوف كذلك.

لم يشف ذاك الصندوق غليلي لذا أعدته حيث كان و فتحت أخرًا فملأت الغرفة رائحة الورنيش لبرهة تلتها رائحة الأسماك النفاذة لما فيه من بيض السمك. الصندوق الثالث كان معلمًا بلفظ “أحذية رياضية” بالصينية أما الرابع فكان كالأول مليئًا بالشاي من ماركة أخرى. لم أحاول تذوق الشاي أو بيض السمك طبعًا لمعرفتي بأن لحظة تناول المحقق لمادة غريبة تعلن دومًا انتقال القصة إلى عوالم ما وراء الطبيعة أو الأحلام و كلتاهما تيمتان أبغضهما في القصص البوليسية. 

كان هذا كل ما في الكيس حتى بعد أن فتشه رن بدقة أكبر ، و قد فاق فضوله خوفه. لذا أعدنا كل شيء كما كان و انخرطنا في محادثاتنا المعتادة بقية اليوم. استجابة لطلب رن رسمت له شجرة عائلتي ، أو بدأت برسمها على الأقل مستسلمًا عند الفرد الثلاثين فيها. أما شجرة عائلة رن فاحتوت اثني عشر  شخصًا فقط موزعين على ثلاثة أجيال. لم يحاول رن حتى إخفاء  إندهاشه متسائًلا بصدق “كيف تحفظ اسماء كل أفراد عائلتك؟!” ، و هو ما لم أجد له جوابًا. 

ليلتنا تلك كانت الأخيرة على متن القطار السيبيري ، كما كانت الأبرد لدرجة قاربت فيها البرودة داخل القطار مثيلها خارجة ، و كان هذان عذرين كافيين  لدعوة عائلة الهي و يونتشن و كينتشاو على مأدبة  عظيمة قوامها كل ما تبقى معنا جميعًا من طعام لم نتناوله بعد. غادرت تلك المأدبة ممتلًأ كعقل طالب قبل الامتحانات  ، و زحفت إلى الفراش راجيًا الله بتعجيل نومي أو موتي فلا شيء سواهما كفيل برفع ما ببطني الآن من صراع. شابهت أجواء تلك الليلة الاحتفالية  بما فيها من تنوع بالطعام أجواء العيد في طفولتي مدغدغة مشاعري بالحنين قبيل النوم ، و على إثر هذا أغمضت جفوني على رائحة البحر بجانب منزل طفولتي بابتسامة على محياي.

الفصل التالي

 


فكرتان اثنتان على ”جريمة القطار السيبيري العظيم

  1. للتو أنهيت هذه التدوينة الرسائلية أو التدوينات إن صح التعبير وفضلت التعليق في لحظتها لحضور المعنى..
    عندما تكون الرحلة في المركبة لا الوجهة سيكون الأمر مختلفًا كما هو هنا.
    قرأتها على فترات متقطعة فوجدت الكثير من المعرفة والزخم الثقافي والتاريخي والأدبي والمحصّل اللغوي فضلًا عن انفراط الكثير من الضحك القلبي. أحببت مزج المعلومة بواقعيّة التوثيق اليومي ونكهة التشويق البوليسي . هذا الطابع المتمازج جدير بالإشادة كونه حرّك فضولي للرجوع للخريطة والمعجم اللغوي وأسماء بعض المدن وقادني للترويح والفكاهة اللطيفة. أرى بأن تدوين هذه التفاصيل متعة لكاتبها وقارئها معًا، كما ستكون مرجعًا للمهتمّين.
    شكرًا على هذه التذكرة المجانية لقطار K19 التي قلّتنا على متنه وأوردتنا تفاصيله وتفاصيل ركّابه التي لم تكن لتغدو بهذا القالب لولا شفرتك الخاصّة في التدوين. دمتَ مُدوّن شغوف.

    إعجاب

  2. جريمة القطار السيبيري العظيم، تقرأ العنوان للمرة الأولى مشددًا على الجريمة العظيمة، وبلا أي أحكام مسبقة أو تصورات فتخالها ليست أكثر من قصة خيالية كُتبت لتطويع جموح ساعات الملل على متن القطار أو انتهازًا للدهشة حال أخواتها من القصص على وجه العموم..
    إلا أن المعنى كان أجزل، أي نباهة إنشائية قادرة على تحوير حدث قد لايعدو كونه حدث عَرَضي مساند للحبكة
    إلى حدث رئيسي؟
    استمتعت كثيرًا، و نسبة كبيرة من هذه المتعة تعود لكون الشخوص مرئية “حية لا مختلقة” على نقيض بقية القصص إلا أن هذا لم يمنعني من تخيل حركاتهم وسماع جلبة القطار متزامنة مع صخب/بطء أحاديثهم حسب شدة الضوء الأخضر للأحداث…
    رائعة جدًا لا لكونها بديعة كمادة قراءة فقط بل لقدرتها على تجاوز زخم الاعتيادية كصور ولحظات حاضرة بالذهن كذلك …
    في انتظار المزيد من الرسائل..

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s