جريمة القطار السيبيري العظيم


Добро пожаловать в салон

الرابع من أكتوبر ، 2019

عادة يستهل كتاب القصص البوليسية (أنا في هذه الحالة) الفصل الأخير من روايتهم بصفحة يدعون فيها القارئ (و هو أنت) بالتوقف عن القراءة مؤقتًا و محاولة استنتاج الحل قبل أن يكشَف لهم في صفحات هذا الفصل ، و ربما أدرجت صفحة فارغة بعد هذه الدعوة لمنع القارئ من اختلاس النظر إلى الحل بعذر الخطأ. 

لم أتقبل هذه العادة قط من قبل ، و لا أنوي اتباعها  هنا. لو كانت حلول القضايا دومًا بهذا الوضوح لما امتلأت الصحف بأخبار القضايا غير المحلولة و قصص من سجن ظلمًا بتهمة لم يقترفها. أما في عالم القصص ، فمعرفة قواعد اللعبة التي وضعها المؤلف معضلة يستحيل حلها حتى نهاية القصة و إعلان الحل. أسيعلق الكاتب الحل كله على امتلاك المجرم مهارة أكروباتية بمستوى يؤهله للفوز بكل الميداليات الأولمبية؟ أيسمح عالم هذه الرواية بالتنكرات التي تحول شخصية إلى صورة طبق الأصل من أخرى أم يمكننا افتراض أن كل شخصية وردت في القصة كانت هي فعلًا و ليست أخرى متنكرة؟ و هل يا ترى سيستعمل المحقق الخدشات حول قفل بيت الضحية كدليل دامغ على كون الضحية سكّيرًا متغاضيًا عن احتمالية  كون ساكن البيت السابق مصابًا بالرعّاش؟

يستحيل  على القارئ عادة – برأيي – معرفة قواعد اللعبة قبل نهايتها. لذا لن أهينك بإيراد تلك الدعوة و إنما سأسرد عليك الحقيقة كما عرفناها في النهاية. و لو كانت هذه الرسالة أحد أفلام المحققين لتخلل حديثي مونتاج نعيد فيه زيارة مشاهد سابقة من منظور أخر يوضح ما حدث فيها فعلًا ، و لربما كان ذاك المونتاج بالأبيض و الأسود و علاه صوت راو ذي  صوت مبحوح أو رخيم. قدرات هذه الرسالة التعبيرية ، للأسف ، لا تعلوا لذاك المستوى ، و أنا محدود بالكلمة لوصف ما حدث و حسب. 

وجدت خلال تحقيقي في يومه الأخير القطعة الأخيرة من الأحجية أثناء استجواب أحد الشهود. و أخر شاهد استجوبته ، و أخر شاهد تتوقعه ، حمل مقاليد الحل ، و هو طفل آل هي الصغير الذي شاهد ناتاشا و زوجها بوروف و سايا ينقلان الأكياس  السوداء من و إلى الغرف أكثر من مرة. 

أمضى رن تلك الظهيرة بين النوم و القراءة بينما قمت أنا بكل التحقيق و تتبع أطراف الخيوط

شغل ثلاثي المحصلين ذاك عصابة دولية من المهربين بين الصين و روسيا ، و إن كانت فظاعة جرائمهم أقل بكثير مما تبدو عليه عند وصفها بهذا اللفظ. قبل بداية كل رحلة في الصين يشتري المهربون بضاعتهم من الصين ثم يوزعونها من على القطار في كل محطة على شركائهم ليوصلها إلى الزبائن. و درت المكاسب على الثلاثة عبر تفادي ضريبة الواردات الدولية ، و سعر الشحن ، و فرق السعر ، و عبر تهريب بضائع معينة لم يصرح ببيعها في روسيا بعد. كل ما هربوه كان من قبيل الطعام و الشراب و ما حولها ، و لم يهربوا  أصنافًا هي في حد ذاتها مضرة أو ممنوعة  بغض النظر  عن قطع الحدود. و لكن أفعالهم – رغم هذا – كانت ممنوعة قانونيًا. 

عندما استقليت المقطورة في محطة بكين باحثًا عن غرفتي أول مرة ، كان بوروف هناك يخفي بجسده الضخم الحجرة حيث أخفوا بضائعهم قبل انطلاق القطار. لم تكن كرشه المكورة مطاطية أو تنكرًا كما ضننت مبدئيًا ، و لكني كنت محقًا في الشك بها على أية حال. صحيح أن بطنه من لحم و شحم و دم ، و لكنه استعملها كسلاح أساسي في أفعاله الإجرامية ، و لذا صح حدسي فيها. بعد مغادرة المحطة ينقل بوروف و من معه البضائع من الحجرة إلى تحت أسرة الركاب لكي يظنها  حرس الحدود من أمتعتهم الشخصية و لا يلقوا لها بالًا. 

في محطتي مانزولي و زابايكالسك حين قطع الحدود الصينية-الروسية رش بوروف المقطورات كلها و بضائعه بالورنيش فعلًا لا بمعطر رخيص ، أملًا بأن يصد هذا الكلاب البوليسية عن شمها و فتح التساؤلات عنها. لا أعرف ما إن كانت الكلاب البوليسية الروسية مدربة على البحث عن الشاي و بيض الأسماك ، و لكن بوروف لم يعرف بعد أيضًا كما هو واضح. بقطع الحدود إلى داخل روسيا يبدأ الثلاثي بتوزيع ما هربوه على شركائهم في كل محطة مستعملين صندوق طعام ناتاشا لتخبئة الأكياس السوداء داخله و حملها إلى المنصة بعيدًا عن أعين الناس. 

إلا أن حدثين غير متوقعين أخلا بروتين العصابة المعتاد و أديا  في النهاية إلى كشف أفعالهم ، كان أولهما اعتقال جيمس. لما كان المحصلون الثلاثة المسؤولين عن جمع تذاكر الركاب في بداية الرحلة ، عرفوا يقينًا من من الركاب سيكمل الرحلة إلى نهايتها و من سيتركه في منتصف الطريق. نقل البضائع من و إلى الغرف مرة واحدة كان صعبًا بما فيه الكفاية ، و لذا تفادوا تكرار هذا بتخبئة البضائع تحت سرر الركاب المتجهين إلى موسكو و حسب. و بالتالي ، عندما اعتقل جيمس ، اضطروا للارتجال  و نقل كل ما كان في غرفته إلى غرفة يونتشين و غرفتي التي تركوها خالية أصلًا لتوقعهم الصائب في أنها ستفتش أكثر من غيرها عند الحدود. و تحت عذر ابتغاء ناتاشا تنظيف غرف الركاب دون إزعاجهم طلب الثلاثي من النادل أليكس إعلامهم بمن هو حاليًا في المطعم منهم و مماطلتهم إن أمكن ، و هو ما لم يمانعه أليكس ما دام سيقلل من مقدار عمله كل يوم. و هكذا استغلوا تواجد كل راكب في المطعم لنقل البضائع من و إلى غرفته. 

العثرة الربانية الثانية في خطتهم الإجرامية و المسمار في نعشها كان أعمال الصيانة و الترميم في محطة تاغيا التي أغلقت أغلبها و منعتهم من نقل البضاعة إلى شريكهم  في تاغيا في بقعتهم المعتادة. مرة أخرى اضطرت سايا وحيدة للارتجال  هذه المرة فاستعملت ما كان في غرفة جيمس المهجورة من ألبسة و وسائد لصنع كرة مبطنة وقائية حشرت البضاعة في وسطها. عندما صادفت سايا مطلة بجذعها خارج بوابة القطار المفتوحة أثناء سيره كانت قد ألقت بتوها بضائعهم المبطنة في منطقة نائية لكي يلتقطها شريكهم في محطة تاغيا. 

إلا أن استعمال سايا للبوس سرير غرفة جيمس نبه رئيسة المحصلين لضياع ألبسة أكثر من المعتاد. بوروف و ناتاشا و سايا خافوا من رئيسة المحصلين الحديدية و اقترابها من الحقيقة علمًا منهم باستحالة خداعها أو شرائها. و لذا في محاولة أخيرة بائسة يائسة لطمر أثارهم استغرقوا ليلة الأمس برمي كل ما تمكنوا من الوصول إليه مما تبقى من بضاعتهم من النافذة مما زاد من برودة المقطورة. و عندما شممت رائحة البحر قبل النوم ليلة الأمس لم يكن ذاك بداعي الحنين – و حسب – بل لأن نافذة بوروف كانت تمطر أسماكًا و بيوضها. 

لسوء حظهم كانت أفعالهم متأخرة ، فقد اكتشف حقيقة جرمهم قبلها محقق نبيه وسيم من الشرق و رئيسة محصلي القطار الروسية كذلك. و هكذا قبل وصولنا إلى موسكو بمحطة واحدة اقتحمت رئيسة المحصلين غرفتنا و عيناها الزرقاوان ممزوجتان بحمرة اللهب و الغضب لتنتزع الكيس الأخير من تحت فراش رن و تسحبه إلى الممر ، أتحدث عن الكيس لا رن طبعًا. هناك أمضت ما يزيد عن الساعة صابة صواعق غضبها بالروسية على الثلاثي المنكمش في الزاوية مسجلة في مفكرتها كل كلمة خجلة خائفة قالها أي منهم. لم أعرف حينها ماذا سيحل بهم و مدى عظمة جرمهم في بال الرئيسة. هل يا ترى ستسحبهم إلى السجن أم تطردهم دون أتعاب ، أم الأمر أسهل من هذا و سيواصلون العمل كما قبل بعد هذا التقريع؟ لم أعرف وقتها و لم أعرف بعد ، و لكن مهمتي في إيصال المجرمين إلى العدالة انتهت بنجاح هناك. 

أثارت نهاية هذه القضية خيبة أملي و سببت لي حالة شديدة من الإحباط لم تنهِها  كلمات زملائي التشجيعية. فبينما يبدأ أغلب المحققين مسيرتهم المهنية بقضايا قتل انتقامية  أو تسلسلية و نهر من الجثث ، كانت قضيتي الأولى إحباط عصابة من مهربي بيض السمك. لم يقتل شيء على هذا القطار خلال أسبوع كامل فيه سوى  أحلامي و أمالي ، و لم تنتزعني من حالة الإحباط تلك إلا الأمل بأن تكتمل حكاية منظمة رن الجاسوسية خلال وجودي في روسيا. 

صورة تذكارية مع رن في محطة الوصول و نصبها التذكاري

أعيدت لنا جميعًا تذاكرنا حالما دخلنا حدود موسكو قبل وصولنا إلى نقطة النهاية في محطة ياروسلافسكي. هناك على آخر  الخط وقف عامود بلوحة مكعبة معدنية تعلن بداية و نهاية سكة الحديد الروسية نقش عليها برموز بارزة رقما 0كم و 9298 ، عدد الكيلومترات على الخط السيبيري. اجتمعت مجموعتنا الصغيرة المرحة من المحققين عند ذلك العامود ملتقطين الصور التاريخية و محاولين عناق رن الذي بدا جاهلًا بمعنى العناق و متخوفًا منه في آن واحد. لمحت بطرف عيني حينها بوروف و ناتاشا و سايا يغادران القطار سوية حاملين صندوق طعام ناتاشا للمرة الأخيرة ، قبل أن يذوبوا ببطء بين حشود المشاة تحت سماء موسكو الرمادية.

الفصل التالي

 


فكرتان اثنتان على ”جريمة القطار السيبيري العظيم

  1. للتو أنهيت هذه التدوينة الرسائلية أو التدوينات إن صح التعبير وفضلت التعليق في لحظتها لحضور المعنى..
    عندما تكون الرحلة في المركبة لا الوجهة سيكون الأمر مختلفًا كما هو هنا.
    قرأتها على فترات متقطعة فوجدت الكثير من المعرفة والزخم الثقافي والتاريخي والأدبي والمحصّل اللغوي فضلًا عن انفراط الكثير من الضحك القلبي. أحببت مزج المعلومة بواقعيّة التوثيق اليومي ونكهة التشويق البوليسي . هذا الطابع المتمازج جدير بالإشادة كونه حرّك فضولي للرجوع للخريطة والمعجم اللغوي وأسماء بعض المدن وقادني للترويح والفكاهة اللطيفة. أرى بأن تدوين هذه التفاصيل متعة لكاتبها وقارئها معًا، كما ستكون مرجعًا للمهتمّين.
    شكرًا على هذه التذكرة المجانية لقطار K19 التي قلّتنا على متنه وأوردتنا تفاصيله وتفاصيل ركّابه التي لم تكن لتغدو بهذا القالب لولا شفرتك الخاصّة في التدوين. دمتَ مُدوّن شغوف.

    إعجاب

  2. جريمة القطار السيبيري العظيم، تقرأ العنوان للمرة الأولى مشددًا على الجريمة العظيمة، وبلا أي أحكام مسبقة أو تصورات فتخالها ليست أكثر من قصة خيالية كُتبت لتطويع جموح ساعات الملل على متن القطار أو انتهازًا للدهشة حال أخواتها من القصص على وجه العموم..
    إلا أن المعنى كان أجزل، أي نباهة إنشائية قادرة على تحوير حدث قد لايعدو كونه حدث عَرَضي مساند للحبكة
    إلى حدث رئيسي؟
    استمتعت كثيرًا، و نسبة كبيرة من هذه المتعة تعود لكون الشخوص مرئية “حية لا مختلقة” على نقيض بقية القصص إلا أن هذا لم يمنعني من تخيل حركاتهم وسماع جلبة القطار متزامنة مع صخب/بطء أحاديثهم حسب شدة الضوء الأخضر للأحداث…
    رائعة جدًا لا لكونها بديعة كمادة قراءة فقط بل لقدرتها على تجاوز زخم الاعتيادية كصور ولحظات حاضرة بالذهن كذلك …
    في انتظار المزيد من الرسائل..

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s