Колеса вращаются
الثاني من أكتوبر ، 2019
بدأ ذاك اليوم بتحلق مجموعتنا الصغيرة وليدة الرحلة على مائدة الإفطار ، أنا فرن ثم يونتشين و كينتشاو. غادر أغلب الركاب القطار بالأمس عند بحيرة بيقال ، و بالتالي كانت مقطورة الطعام أقل ازدحامًا بكثير من العادة. وجب منطقيًا أن يرفع هذا سرعة الخدمة و تلقي الطلبات هنا ، و لكنه في الواقع أدى لتأثير عكسي. فتخلى النادل الروسي عن سماعات جواله ليشركنا كلنا في الاستماع إلى أغانيه المفضلة التي كانت كلها مليئة بالزعيق و الصراخ باللغة الروسية على نغمات الدث ميتال.
منذ ربع ساعة و حتى الآن و رن مستغرق في إلقاء خطبة عصماء بتراء على مسامع الفتاتين بالصينية ، إلا أني لم أحتج إلى ترجمة فما احتاجَ لاستعماله من اسماء و كلمات إنجليزية كشفت لي فحوى موضوعه الذي شرحه لي مرتين على الأقل من قبل. خطبة رن عن القطارات التي تقطع سيبيريا و هي ببساطة: القطاران السيبيريان 001 و 002 المرتحلان من فلاديفستوك الروسية الشرقية إلى موسكو في الغرب ، و القطاران المنتشوريان K19 و K20 و رحلتهما من بكين إلى موسكو عبر الصين و روسيا ، و أخيرًا القطاران المنغوليان K3 و K4 و رحلتهما من بكين إلى موسكو عبر منغوليا و عاصمتها أولان-باتوور. كل القطارات بطاقم روسي ما عدا المنغولية فطاقمها صيني يتحدث الإنجليزية كذلك و لذا فهي أشد ازدحامًا عن غيرها. و أخيرًا يرتحل كل زوج على نفس المسار في اتجاهات متعاكسة ، و يندمج القطار المنتشوري K19 مع السيبيري 001 في محطة تشيتا كما فعلنا نحن.

كما ترى موضوع خطبة رن قابل للاختصار و لا يحتاج إلى هذا الشرح المطول ، إلا أن طوفان رن الفكري اللفظي كان عصيًا عن الإيقاف كلما انخرط في الحديث عن القطارات و بدأت يداه بالرقص حوله راسمة في أذهاننا ما عجزت كلماته عن إيصاله. و فوق هذا كان لخطبة رن أثر في صرف فكري عن الدجاجة التي طلبتها من النادل قبل قرون عديدة حتى خيل إلي أنهم فقسوا صوصًا بعد طلبي يمر الآن بمرحلة المراهقة تأهبًا لذبحه عند البلوغ. بالأمس تلقت كينتشاو حساءً بعد أن طلبت فطيرة ، بينما ابتعت أنا و يونتشن نفس الطلب بسعرين مختلفين. و في كلتا الحالتين عجز النادل عن فهم موطن اعتراضنا تمامًا. للمقطورة هذه أصول أخرى للمنطق و قواعد الفيزياء ، و لكن أحدًا منا لم يمانع معتنقين قول صانع القبعات في رائعة لويس كارول ، كلنا مجانين هنا. بهذه الخاطرة غادرت المقطورة إلى الحمام خلال حديث رن بالإنجليزية هذه المرة عن خطته لاستقلال القطار إلى كوريا الشمالية ، على هذا الفتى فعلًا تعلم إخفاء مهامه التجسسية.
تخطى قطارنا محطته الأخيرة تاغيا دون أحداث تذكر و دون أن نتمكن من النزول منه بسبب أعمال الصيانة في المحطة ، و هو الآن على بعد دقائق لا أكثر من محطته القادمة. يغلق المحصلون أبواب جميع الحمامات أثناء توقف القطارات في المحطة نظرًا لتفريغ نظام التصريف محتوياته على الأرض تحت القطار مباشرة ، و لذا وجب علي مسابقة القطار إلى الحمام. للأسف فشلت في مهمتي هذه ، فقفلت عائدًا إلى المطعم أجر أذيال الخيبة. وجدت في طريق عودتي أبواب المقطورة مفتوحة خلال تحرك القطار داعية الرياح لضرب كل من مر بها ، و بدا أن المحصلة سايا قد فتحت الباب تأهبًا لوصول القطار إلى المحطة و اختارت الوقوف بجانبه و مد جذعها كاملًا مطلة إلى الخارج تاركة لشعرها البني حرية التحرك مع الريح. كما أسلفت كنا جميعًا مجانين على ذاك القطار ، و لكن لبعضنا الأسبقية و السطوة في الجنون مقارنة بالبقية كما يبدو.
في محاولة بائسة لإشغال نفسي حتى يتحرك القطار و يفتح الحمام مجددًا نزلت من القطار فور وصوله إلى المحطة لجولة سريعة حولها. ابتعت من تلك المحطة أوراق لعب روسية بدت أنحف بكثير مما اعتدت عليه ، و اكتشفت بعد فتحها في المطعم أنها احتوت ستا و ثلاثين بطاقة فقط بدلًا عن الاثنين وخمسين الاعتيادية . عرفت فيما بعد أن الأوراق الروسية بهذا العدد عادة ، تتخلى عن جميع الأوراق من 2 و حتى 5.

على رؤية الأوراق على طاولتنا تحرك النادل أخيرًا لا لخدمة الزبائن كالمفترض بل للإشارة إلى الأوراق على مائدتنا و الصراخ “دوراكا!!” مرارًا و تكرارًا. و هكذا بدأت ظهيرة طويلة نحاول فيها فهم قواعد لعبة دوراكا الروسية هذه رغم أنف الحاجز اللغوي الذي ضربنا به هاماتنا حتى سالت الدماء. وددت لو كان بوسعي الافتخار هنا بأنا تعلمنا قواعد اللعبة في النهاية عبر لغة الإشارة و مراقبة أي من بطاقاتنا يسمح بلعبها النادل و أيها يمنع ، و لكن الواقع أننا لم نفهم شيئًا (و إن واصلنا على اللعب) حتى وصلنا إلى محطة ببرج اتصال سمح لنا بالدخول إلى شبكة الإنترنت و البحث عن قواعد اللعبة بالإنجليزية. قرأت قواعد اللعبة على زملائي بصوت عال مغمغمًا لنفسي بأن التجربة الوحيدة الأكثر إيلامًا من محاولة التعلم هذه كانت التعامل مع جيمس.
“أوه! ألم يخبرك أحد بعد؟ جيمس ليس معنا الآن!” أجابت يونتشين بنبرة واضحة من الفرح في صوتها. في ليلة الأمس و بعد نوم الجميع غادر جيمس القطار في محطة وصلها قبيل الفجر مخمورًا و أثار ما يكفي من البلبلة ليعتقله رجال الشرطة في المحطة و يفوت بهذا بقية الرحلة. أخبرنا جيمس عبر برنامج ويتشات أنه أمضى تلك الليلة في السجن ثم غادره بعد دفع غرامة قدرها تسعة ألاف روبل ، و يخطط الآن للعودة إلى بحيرة بيقال و البقاء هناك حتى يمر بها القطار السيبيري القادم بعد أسبوع من اليوم. تعاطف الجميع طبعًا مع ما حل بجيمس ، فمواجهة الشرطة و السجن في دولة لا تتحدث لغتها من أكبر كوايبس الرحالة. و لكني مع هذا لن أكذب بزعم أن أيًا منا افتقد وجود كاميراته على القطار أو وجوده و نتنه معه على مائدتنا.
استمرينا بلعب دوراكا بقواعدها الصحيحة هذه المرة ، مكتشفين أن النادل أليكس (28 سنة) عديم الموهبة فيها ، فبعد أن غادرة رن عائدًا إلى الغرفة غدا أليكس الثاني قبل الأخير في عدد النقاط في اللعبة. يذكر لأليكس هنا أنه التزم بوعده بتقديم خصم على وجباتنا في حالة فزنا عليه في دوراكا. صحيح أن الخصم نسبة ضئيلة مما اختلسه منا مسبقًا برفع الأسعار ، و لكن حلاوة الانتصار فوق الخصم قلبت الموازين لصالحنا.
بعد عدة ساعات من اللعب اكتفى ثلاثتنا ، و إن طالب أليكس بالمزيد ، فاستعنا بالله و انطلقنا في رحلة الألف ميل من مقطورة الطعام في أخر القطار إلى مقطورتنا في أوله. أخبرتني كينتشاو خلالها أن يون خلف هدية لي في غرفتهما قبل مغادرة القطار في بحيرة بيقال ، و وجدت بعد أن وصلنا إلى غرفتهما أن الهدية كانت قطعة عملاقة من الكعك بحجم رأسي مرتين أو ثلاثة. خبأت تلك الكعكة بداخلها شيئًا بكل تأكيد ، إما مسدسًا مع معلومات عن هدفي الأول في عصابة يون ، أو قنبلة تتخلص مني بعد أن ندم هو و كينتشاو على كشف وجود عصابتهم أمامي في الأمس. كلا الخيارين لم يبد محببًا إلي ، و لذا رفضت الهدية بكل تهذيب.

لم يكن ذاك مروري الأولى بغرفتهما ، و لذا لاحظت على الفور كيسًا بلاستيكيًا عملاقًا يطل دونما حياء من تحت سرير يونتشين لم يكن موجودًا في زيارتي الأولى. سألتها ضاحكًا عن أي جثة تخبئ في ذاك الكيس فهزت كتفيها مجيبة بأن الكيس ليس لهما. لاحظ استعمال المثنى هنا ، فلم يكن الكيس لها ولا لكينتشاو. أضافت يونتشن بلا اكتراث أنها وجدت الكيس دون مقدمات تحت سريرها يومًا ما مع كيس أخر تحت سرير زميلتها ، و افترضتا أن الاكياس كانت موجودة هنا منذ بداية الرحلة. شخصيًا كنت متأكدًا بعدم وجوده المسبق فما كنت لأفوت شيئًا بذاك الحجم ، و لكن حدسي منعني من مواصلة السؤال عارفًا أن من يكثر من التساؤل و فضح الكذبات الواضحة من المحققين عادة ما ينتهي جثة يبحث محقق أخر عن سر وفاتها.
قفلت عائدًا إلى غرفتي خالي الوفاض ، فاستوقفني هذه المرة أب عائلة الهي برهة حاملًا في يده ورقة طلب من ابنه أن يكتب فيها رسالة شكر لي قرأها على مسامعي بخجل و رتابة صوت من يقرأ ما لا يعرف فحواه. و لكن مشاعره كانت – رغم هذا صادقة – فرددت عليه بالكلمة الصينية الوحيدة في جعبتي و التي كانت لحظي شيشي ، أي شكرًا.
على أخر تلك الليلة قعدت مع رن في غرفتنا و قد خيم عليها الظلام قصدًا ليسمح لنا برؤية نهر أوب عند مرور القطار به ، و هو نهر روسي شديد الطول يمتد من القطب الشمالي و حتى سيبيريا. قرأت قبل مشاهدتي للنهر الكثير عن كونه المعبر الأوحد إلى سيبيريا قبل بناء هذا القطار ، و عن عربات قياصرة التسار عليها ذات الزلاجات المسحوبة وراء الخيول حين يتجمد النهر في الشتاء و نهاية الخريف ، و حتى عن المعارك البحرية الضروس التي قامت عليه و معاطف الجنود البيضاء الملطخة بالدماء. إلا أن كل ما قرأت في تلك اللحظة بدا معزولًا عن مشهد النهر الليلي أمامي ، و عجزت تمامًا عن تصوره في غير حالته الراكدة المسالمة تلك.

ظلت غرفتنا في ظلمتها بعد أن قطعنا النهر ، مواصلين التأمل في ظلام الليل و أنوار الأكواخ البعيدة المتراقصة و ما مثلها من نجوم. بعد فترة من هذا أوى كلانا إلى فراشه ، و قد تمتم كل منا للأخر بـ”تصبح على خير” بخفوت. الليلة تلك كانت الأهدأ و الأعذب على الروح منذ بداية الرحلة ، و لكني مع هذا ضللت مستيقضًا على سريري محملقًا في السقف و قد طردت فكرة راسخة النوم عن أجفاني. قاومتها لفترة متعوذًا من الخناس و وساوسه إلا أنني خسرت الحرب في النهاية و تركت السرير لأنحني تحثته باحثًا عما أملت ألا أجده.
و تحت سريري ، وجدت كيسًا بلاستيكيًا أسود.
للتو أنهيت هذه التدوينة الرسائلية أو التدوينات إن صح التعبير وفضلت التعليق في لحظتها لحضور المعنى..
عندما تكون الرحلة في المركبة لا الوجهة سيكون الأمر مختلفًا كما هو هنا.
قرأتها على فترات متقطعة فوجدت الكثير من المعرفة والزخم الثقافي والتاريخي والأدبي والمحصّل اللغوي فضلًا عن انفراط الكثير من الضحك القلبي. أحببت مزج المعلومة بواقعيّة التوثيق اليومي ونكهة التشويق البوليسي . هذا الطابع المتمازج جدير بالإشادة كونه حرّك فضولي للرجوع للخريطة والمعجم اللغوي وأسماء بعض المدن وقادني للترويح والفكاهة اللطيفة. أرى بأن تدوين هذه التفاصيل متعة لكاتبها وقارئها معًا، كما ستكون مرجعًا للمهتمّين.
شكرًا على هذه التذكرة المجانية لقطار K19 التي قلّتنا على متنه وأوردتنا تفاصيله وتفاصيل ركّابه التي لم تكن لتغدو بهذا القالب لولا شفرتك الخاصّة في التدوين. دمتَ مُدوّن شغوف.
إعجابإعجاب
جريمة القطار السيبيري العظيم، تقرأ العنوان للمرة الأولى مشددًا على الجريمة العظيمة، وبلا أي أحكام مسبقة أو تصورات فتخالها ليست أكثر من قصة خيالية كُتبت لتطويع جموح ساعات الملل على متن القطار أو انتهازًا للدهشة حال أخواتها من القصص على وجه العموم..
إلا أن المعنى كان أجزل، أي نباهة إنشائية قادرة على تحوير حدث قد لايعدو كونه حدث عَرَضي مساند للحبكة
إلى حدث رئيسي؟
استمتعت كثيرًا، و نسبة كبيرة من هذه المتعة تعود لكون الشخوص مرئية “حية لا مختلقة” على نقيض بقية القصص إلا أن هذا لم يمنعني من تخيل حركاتهم وسماع جلبة القطار متزامنة مع صخب/بطء أحاديثهم حسب شدة الضوء الأخضر للأحداث…
رائعة جدًا لا لكونها بديعة كمادة قراءة فقط بل لقدرتها على تجاوز زخم الاعتيادية كصور ولحظات حاضرة بالذهن كذلك …
في انتظار المزيد من الرسائل..
إعجابإعجاب