جريمة القطار السيبيري العظيم


К19 в Москву

الثامن و العشرون من سبتمبر ، 2019

تبدأ قصتنا في محطة قطار العاصمة الصينية بكين ، حيث وصلت قبيل انطلاق قطاري ببضع ساعات مصطحبًا معي حقيبة الظهر و تذكرتي ذات الصفحات السبع  لقطار K19 الروسي إلى موسكو. كان ذهني متوقدًا على أوجه مذ وطأت أقدامي المحطة، لعلمي – كأي محقق خبير – بأن الأدلة الدامغة تظهر غالبًا في أوائل صفحات الرواية ، بل و حتى قبل ذلك لو كانت الرواية كتبت خصيصًا لإغاظة  الناقد الشهير فان داين الذي كان يصر أن  على كل رواية بوليسية تحترم نفسها و قارئها أن تقدم له كل الأدلة و إلا ما اعتبرها كذلك. 

من مظاهر الحشر في محطة قطار بكين

تناثر البشر على الأرض حول المحطة ، منهم من ينتظر وصول حبيبه على قطار و منهم من ينتظر موعد مغادرته عليه. و بينما افترش البعض حقيبته ، جاء البعض الآخر مستعدًا ببساط تزاحمت فوقه عائلة كاملة. عرفتُ من بحثي قبل الرحلة أن الطعام على القطار ليس بجودة الطعام خارجه  ، و إن فاق جودة الطعام على أي وسيلة مواصلات أخرى بسنوات ضوئية طبعًا. كما أن المحقق الجائع لا يفكر ، و لذا عصرت نفسي بين  صفوف الباعة و المحلات الضيقة حول المحطة و انبثقت من الجهة المقابلة منتصرًا بحقيبة أخرى ثقلت بغنائم قدرت أنها ستكفيني مدة ثلاث رحلات . ابتعت تقريبًا من الطعام ما يكفي لإبقاء معدتي ملأى  حتى و لو انحرف القطار عن مساره و تحولت قصتي عليه من بوليسية إلى مغامرة أقاسي فيها مع من نجى من مقطورتي ثلوج و دببة سيبيريا محتمين بهيكل المقطورة المنقلبة. 

ركوب القطار كان مسموحًا حتى خمس دقائق قبل رحيله ، و في هذا شهادة عظمى على تسامح و عقلانية القطارات و أجوائها التي تبقيني دومًا في عشقها. لم أنتظر إلى آخر  خمس دقائق لصعود القطار طبعًا  ، بل كنت في صف الصاعدين إلى القطار قبل السائق حتى. سمعت أثناء  انتظاري صوت لهاث  مقرون بضربات جسم ثقيل يسحب على الدرج درجة درجة ، فالتفت لأرى سيدتين تجاهدان  لإنزال حقيبة تفوقهما حجمًا من أعلى درج المحطة إلى منصة المغادرة. كتبت في مفكرتي الذهنية ملاحظة عن وجود هذه الحقيبة التي تكفي لدس  جثة رجل بالغ على متن القطار ، ثم صعدت الدرج عارضًا المساعدة لا لشهامتي  و لكن لكي أتحقق ما إن كان في الحقيبة فعلًا جثة. 

باعة الطعام حيث يستزيد المسافرون قبل الرحلة

اسم السيدتين يونتشين (39 سنة) و كينتشاو (35 سنة) ، و هو ما عرفته لاحقًا بعد أن قربتنا أيام الرحلة السبعة. أعترف هنا بضعف قدرتي في حفظ الاسماء ، و لا تعلق في بالي إلا بعد أن أراها مكتوبة أمامي ، و كان ذاك عندما راسلت السيدتين على منصة ويتشات WeChat الصينية للتواصل الإجتماعي. نقطة الضعف هذه مشينة في حقي ، و لكني واثق من أنها لن تحد من قدرتي على انتزاع منصب أشهر محقق في البلاد ، فالمحققون عمومًا لا يدعون الناس باسمائهم، بل يستعيضون  بأدوات النداء و الضمائر لإضفاء جو عام من الغموض على القضية. غادرت ذلك اللقاء ساعيًا نحو غرفتي داخل المقطورة سعيدًا بتعرفي على بعض الركاب الأخرين مبكرًا في الرحلة هكذا. 

السرير الواحد و العشرون ، في الغرفة السادسة ، في المقطورة الثالثة ، هكذا قالت تذكرتي. عجزت عن إيجاد غرفتي في البداية ، و لذا تلفت باحثًا عن محصل المقطورة لعله يدلني على مبتغاي. و إيجاد المحصلين ، و العمال عامة ، سهل عادة عبر البحث عن أكثر شخص يبدو عليه الملل . فبينما يتلفت الركاب الجدد بسعادة و ذهول على مرأى مشهد تخيلوه لوقت طويل ، يعلو وجه المحصل تعبير من الملل و الرتابة ، و يتحرك بهالة رب المنزل و صاحب المكان. مصداقًا لكلامي كان المحصل بوروف (52 سنة) واقفًا عاري الجذع سادًا الممر بين غرف القطار بكرشه الضخمة كثيفة الشعر ، لا أظنك مهمًا حاولت قادرًا على تصور مشهد يجسد هالة “رب المنزل و صاحب المكان” أكثر من هذا. مد بوروف إصبعاً  مكتنزة ليشير نحو غرفتي بعد النظر إلى تذكرتي ، مرخيًا ظهره على أحد جداري الممر و بطنه على الأخر. بعد دقيقة من الانتظار  أيقنت أنه لن يبتعد عن الطريق ليسمح لي بالعبور صوب غرفتي ، فغادرت المقطورة لأدخلها من بابها الثاني ملتفًا حوله. 

القطار المحروس

بوروف كان مسؤولًا عن مقطورتنا ، تعاونه في مهامه زوجته الصهباء قصيرة القامة ناتاشا (44 سنة) ، و مساعدتهما ذات الشعر البني سايا (42). كلهم روسيون طبعًا فقطار K19 روسي ، و لا أحد منهم ولا من بقية محصلي القطار يتحدث الإنجليزية. أو بالأحرى ، كلهم يزعمون عدم فهمهم للإنجليزية ، و لكن محققًا بارعًا مثلي يعرف حماقة تصديق مزاعمهم ، و الخطة المثلى لتعرية كذبهم قبيل مشهد الذروة هي الهتاف بوجود نار مشتعلة بالإنجليزية تكشف بعدها ردة فعلهم حقيقة طبيعتهم الإجرامية العفنة. زد على هذا نظرة متمعنة في كرش بوروف المتهدلة ، فحدسي يشكك في كونها  في الواقع تنكرًا متقنًا يخبئ  تحته جسدًا رياضيًا صقلته سنين من التدريب في مدارس الباليه الروسية يتيح لبوروف تسلق جدار القطار الخارجي و اقتحام غرفة ضحيته من النافذة مسببًا لغز جريمة الغرفة المغلقة التي سنواجهها في هذه الرحلة لا محالة. 

أما غرفتي فصممت بذكاء لتحشر في مساحة ضيقة أربعة أسرة  و طاولة في النصف بينهما مع مساحة لتخزين الأمتعة أسفل السرير. اكتشفت فيما بعد أن الأسرة الدنيا في المقطورة تتحول إلى مقاعد بعد سحب عتلة بجانبها. وجدت شريكي في السكن و قد سبقني إلى الغرفة ، وحيدًا رغم أن تصميم الغرفة يسمح بأربعة سكان في آن واحد. اسمه رُن (29 سنة) ، و فهمت من حركاته أنه يعرض علي مساعدتي في ترتيب سريري و تلبيسه الغطاء و اللحاف. في الواقع كان لحركاته تفسيران ثانيهما أنه يدعوني لمبارزته على شرف الحسناء دولسينيا ، و لكني رجحت التفسير الأول فكانت تلك أول قضية حللتها بنجاح على القطار السيبيري. رن من شمال شرق الصين ، من إحدى مقاطعات إقليم مانتشوريا الذي سيقطعه قطارنا في رحلته صوب روسيا ، و انتماء رن إلى مقاطعته واضح في لهجته التي عجز بعض ركاب القطار الصينيين الأخرون عن فك شفرتها في بعض الأحيان. بدا رن تائهًا حائرًا على الدوام ، رغم أن ما يعرفه عن القطار و مساره يفوق حتى محصلة بوروف من المعلومات كما أثبت لاحقًا. 

جدول القطارات المغادرة من تلك المحطة و يظهر فيه قطاري K19

ساعدني رن في ترتيب سريري ثم بدأ بتفريغ محتويات حقائبه في أدراج مخفية لم أعرف وجودها في الغرفة قبل ، و أثناء استغراقه في مهمته هذه و استغراقي في مراقبته اقتحم رأس يونتشين الغرفة ليدعونا إلى الممر لنرى شيئًا “كيوت و كوول!”. استعمالها لهاتين الصفتين نجح في قتل حماسي لمشاهدة ما تعنيه ، فهاتان كلمتان لا يمكن أن تستعملا  لوصف الجرائم أو أي عمل يخص المحقق و التحقيق. لذا تبعتها إلى الممر بداعي الأدب لا أكثر ، فوجدت فيه بوروف و قد ارتدى قميصًا هذه المرة  بداعي الأدب كذلك. واصل بوروف الإشارة إلى غرفة صغيرة في نهاية الممر فاركًا شعره بيده الأخرى مرددًا “دش! دش!” يبدو أن دش هي الكلمة الروسية للاستحمام ، و لا أعرف من منا سرقها من الأخر. فهمت من بوروف أن الغرفة في أخر الممر مخصصة للاستحمام ، و استعمالها يكلف سعرًا زهيدًا هو خمسة عشر يوان لكل استحمام ، أي حوالي السبعة ريالات. عرض مغري و لكني استحممت قبل ذهابي إلى المحطة اليوم لذا سجلت الغرفة في مفكرتي الذهنية كأول موقع نبحث فيه عن جثة أول من يختفي من الركاب في هذه الرحلة و قفلت عائدًا إلى الغرفة. 

خطأي الأول تلك الليلة كان الاستخفاف بإصرار بوروف على أن نستحم ، فقد اقتحم الغرفة بعد دخولي إليها مباشرة لتطرحني كرشه الهائلة أرضًا. بشكل ما اختفى قميص بوروف قبل دخوله الغرفة ليصير عاري الجذع مجددًا ، و بدأ بممارسة رقصة الـ”دش” مشيرًا إلى رن هذه المرة. بدوره حاول رن قدر وسعه الاختفاء  تحت السرير أو الخروج من النافذة دونما جدوى ، ناظرًا إلى بنظرات الاستجداء و طلب النجدة. لم يتعرف رن على بوروف قبل ذاك الموقف ، و لذا بالنسبة له فإن راكبًا أخرًا اقتحم غرفته عاريًا صارخًا بلغة أجنبية دونما سبب ، و لا أظن  هلع رن يقل لو عرف هوية بوروف الفعلية. استمر بوروف في المحاولة بضع دقائق ثم استسلم و غادر الغرفة متجهًا لاقتراف جريمة بلا شك. 

حديثي عن هجوم بوروف عاريًا لم يكن مجرد تشبيه

خلال هذه المسرحية غادر القطار محطة بكين لتعلن الرحلة عن بدايتها بهدوء خيم على المقطورة بعد أن انسحب بوروف إلى غرفته مع ناتاشا ، فكل من في المقطورة أغراب لم يصادقوا بعضهم البعض بعد ، و لذا قرر الجميع إعلان نهاية فعاليات اليوم بشكل مبكر و الخلود إلى الفراش كما الدجاج. عجزت في البداية عن النوم منزعجًا من صوت هدير محرك القطار و دوران عجلاته ، واثقًا من أن المجرم بيننا سيستغل هذه الأصوات لإخفاء صوت ضحيته أو طلق سلاح جريمته الناري حين تحين اللحظة الحاسمة. لحسن الحظ لم يكن رن من أرباب الشخير ، و تلك مفاجأة سعيدة كان استيعابها آخر  ما أذكره من ذلك اليوم. 

الفصل التالي


فكرتان اثنتان على ”جريمة القطار السيبيري العظيم

  1. للتو أنهيت هذه التدوينة الرسائلية أو التدوينات إن صح التعبير وفضلت التعليق في لحظتها لحضور المعنى..
    عندما تكون الرحلة في المركبة لا الوجهة سيكون الأمر مختلفًا كما هو هنا.
    قرأتها على فترات متقطعة فوجدت الكثير من المعرفة والزخم الثقافي والتاريخي والأدبي والمحصّل اللغوي فضلًا عن انفراط الكثير من الضحك القلبي. أحببت مزج المعلومة بواقعيّة التوثيق اليومي ونكهة التشويق البوليسي . هذا الطابع المتمازج جدير بالإشادة كونه حرّك فضولي للرجوع للخريطة والمعجم اللغوي وأسماء بعض المدن وقادني للترويح والفكاهة اللطيفة. أرى بأن تدوين هذه التفاصيل متعة لكاتبها وقارئها معًا، كما ستكون مرجعًا للمهتمّين.
    شكرًا على هذه التذكرة المجانية لقطار K19 التي قلّتنا على متنه وأوردتنا تفاصيله وتفاصيل ركّابه التي لم تكن لتغدو بهذا القالب لولا شفرتك الخاصّة في التدوين. دمتَ مُدوّن شغوف.

    إعجاب

  2. جريمة القطار السيبيري العظيم، تقرأ العنوان للمرة الأولى مشددًا على الجريمة العظيمة، وبلا أي أحكام مسبقة أو تصورات فتخالها ليست أكثر من قصة خيالية كُتبت لتطويع جموح ساعات الملل على متن القطار أو انتهازًا للدهشة حال أخواتها من القصص على وجه العموم..
    إلا أن المعنى كان أجزل، أي نباهة إنشائية قادرة على تحوير حدث قد لايعدو كونه حدث عَرَضي مساند للحبكة
    إلى حدث رئيسي؟
    استمتعت كثيرًا، و نسبة كبيرة من هذه المتعة تعود لكون الشخوص مرئية “حية لا مختلقة” على نقيض بقية القصص إلا أن هذا لم يمنعني من تخيل حركاتهم وسماع جلبة القطار متزامنة مع صخب/بطء أحاديثهم حسب شدة الضوء الأخضر للأحداث…
    رائعة جدًا لا لكونها بديعة كمادة قراءة فقط بل لقدرتها على تجاوز زخم الاعتيادية كصور ولحظات حاضرة بالذهن كذلك …
    في انتظار المزيد من الرسائل..

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s