جريمة القطار السيبيري العظيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 الخامس من أكتوبر 2019

موسكو ، روسيا

إلى العزيز أسامة ، السلام عليك و رحمة الله و بركاته و بعد: 

كتبت لك أول هذه الحروف على متن القطار السيبيري الشهير. تعرف أفضل من غيرك أني نادرًا ما أسافر مع حاسوبي المحمول كبير السن المتداعي  ، و لطالما حاولت إقناعي باستبداله دون أن يزعزع استجداؤك  جبال إخلاصي له. لذلك فها أنا أدون المسودة الأولى لهذه الرسالة المطولة على دفتر أزرق ابتعته في محطة روسية آيلة للسقوط توقف عندها القطار آخر الليل ، عائدًا إلى القطار ركضًا قبل أن تتحقق أعظم كوابيسي و يرحل بدوني. أرجو أن تقدر تضحيتي في سبيل هذه الكتابة ، فاهتزاز القطار الدائم يحيل خطي إلى أثار تخبط دجاجة بعد الذبح ، و خطي لم يكن آية في الجمال قبلًا على أية حال. 

المحطة من حيث ابتعت المذكرة

كما أن الكتابة عندي عمل مطول يتضمن تجربة الجملة تلو الأخرى حتى تجد ما يناسب ذائقتك منها ، و الوسائط الإلكترونية تسمح بهذا دون تحويل الصفحة إلى مذبحة من الجمل المشطوبة. أزعم أن أكبر كذبة قدمتها لنا هوليوود ليست الأبطال الصلعان و قفزهم فوق عشر سيارات و ثلاثة قوانين  من قوانين نيوتن ، و إنما هي أي مشهد يتوقف فيه بطل الفلم لكتابة رسالة. في تلك المشاهد ، تمتشق الشخصية قلمها لتكتب رسالة هي من المطولات بلا توقف للتفكير و التقاط الأنفاس أو التراجع عن جملة كتبتها مرة واحدة ، و تكون النتيجة عملًا يزلزل له عرش ديستوفيسكي. تلك مهارة قد يبيع أي طالب روحه لامتلاكها قبيل موعد تسليم مشاريع نهاية العام ، و لكن هذا ليس موضوعي هذه الرسالة. 

الليلة هي الأولى بعد رحلة استغرقت ستة أيام بلياليهن قضيتها في قطار سار دونما عجالة من العاصمة  الصينية بكين إلى موسكو عاصمة روسيا عبر إقليم مانتشوريا الصيني. قد تستغرب كما يستغرب غيرك من معارفي حبي الجم للقطارات و لرحلاتها الطويلة ، فهي النقيض التام لكل ما يراه الناس في شخصي الجامح الأشبه بحصان سباق مشحون  ببطارية نووية. فالقطارات تجبرك على الجلوس في مساحة مغلقة بلا نشاطات  تذكر سوى  عد الأشجار المتراكضة  خارج نوافذها و عد الساعات التي كنت ستكسبها في وجهتك لو استقليت الطائرة. و اختياري لهذا النوع المقنن من العزل الانفرادي  قطعة أحجية دائرية لا تنفذ مهما فعلت عبر فتحة تصور الناس المربع لي. 

يفك أول خيوط عقد هذا التناقض برأيي اعتراف بسيط: أنا أحب قصص المتحرين و التحري. و لعَمري أعجز عن تحديد نقطة في تاريخي بدأ عندها هذا الهوس ، أظن  أن العالم الأدبي بأكمله  كان مدمنًا للتحري و أجوائه منذ عهد أجاثا كريستي و أرثر كونان دويل و حتى أفلام النُوَارْ Film Noir بأجوائها الضبابية و أبطالها ثقيلي الظل ذوي المعاطف ، و إنما  هوسي وليد ذاك.

للأسف استيقظ العالم الأدبي يومًا ما و قد قرر أنه قد صار رجلًا جادًا فجأة لم تعد لعبة التحري مناسبة لمقامه ، و نفى بالتالي المحققين و قصصهم إلى حيث نفيت بقية أعمدة طفولتي الغابرة كالرمال المتحركة و الغواصات و رعاة البقر. أعترف هنا أنني جزء من المشكلة فقد انخفض استهلاكي لهذه القصص مؤخرًا بعد أن كنت ألتهم اثنتين منها على الفطور و أفتح شهيتي للغداء بثلاث. و لكن هوسي بالعكس لم يزد إلا قوة و تأصلًا ، و هو في هذا السياق أهم من سواه. 

إطلالة من إطلالات مقصورتي العديدة على القطار

كانت القطارات الموقع الأوحد لأكثر أحداث مغامرات العهد الكلاسيكي و قصصه البوليسية. ركوب قطار في ذلك العهد كان يعني بلا شك أن ثرياً مخبولاً في سباق للدوران  حول العالم سيشتريه خلال الرحلة ليحرق نصفه كوقود يساعد النصف الأخر على قطع جسر متداعٍ  تناسى الجميع صيانته. أو أن جريمة ستقع أو توشك على الوقوع ليكون حلها أو تفادي وقوعها  مهمة أشهر محققي البلاد. و إن لم يحدث هذا و لا ذاك فلا تقلق ، لا تزال إحدى عربات القطار محملة ببقايا “إنسان بكين” التي ستفتك بالجميع مالم ينجح “هن تشو كان” باستقلال القطار قبل فوات الأوان .  حاول ألا تمعن التفكر – خلال هذا كله – في أصوات القتال و الخبطات من على قمة القطار فهذا في الغالب المحقق شيرلوك ، أو كونان ، أو جاك السفاح ، أو لاعبا كرة على حصانين يحاولان الوصول إلى الملعب قبل نهاية الشوط الثاني ليحبطا خطة أسياد القمار الذين خطفوهما و سببوا هذه المشكلة. يبدو أحيانًا أن قطارات ذاك العهد أقلت فوق عرباتها زبائنَ  أكثر من داخلها. كان كاتبوا الروايات البوليسية ، و الكتاب عمومًا ، مهووسين بالقطارات ، و هوسي موروث منهم.

و لطالما كنت مقتنعًا أني سأصير محققًا في يوم ما ، أو أنا في الواقع محقق في انتظار قضيته الأولى كما وصف بهجت الأباصيري نفسه كـ”قبطان و مستني سفينة” في مسرحية مدرسة المشاغبين المصرية الخالدة. أو – على الأقل – سأحضى يومًا بلحظة تبرز فيها عبقريتي التحليلية حيث فشلت عقول رجال الشرطة ، و قد أنشأت في طلب هذا جمعية للمحققين في مدرستي الابتدائية  مع من وثقت بهم من الطلبة. يظل  حلمي هذا ، أو بالأحرى أملي ، في سبات عميق غالب الأوقات يستيقظ  منا بعنفوان و زئير ما إن أركب أي قطار. عندها أجوب القطار المرة تلو الأخرى من آخره لآخره متمعنًا في الركاب محاولًا استشفاف أيهم جاسوس أو قاتل على وشك الفتك بضحيته ، فاتحًا عيني لكل التفاصيل الصغيرة التي ستبدي أهميتها عندما أجمع كل الركاب في مقطورة واحدة على نهاية الرحلة لأشرح لهم ببطء مهين من فعلها – متبعًا التقليد المعروف و المسمى بمشهد الصالون في الأوساط الأدبية. 

هكذا تكون أي رحلة على القطار في مخيلتي ملحمة أجاهد فيها لمعرفة من فعلها أو من سيفعلها. و لكن للأسف الشديد ، و بقلب كسير ، يسوؤني  الاعتراف بأن جهودي في البحث في القطارات عن خطة شريرة لأحبطها قبل وقوعها و أسوق فاعلها إلى العدالة عاد دومًا بخفي حنين ، حتى رحلتي هذه. في جنبات  القطار السيبيري ، تحقق معظم حلمي ، و واجهت للمرة الأولى مجرمينَ  و جرائمَ  ساقهم حظهم العاثر إلى قطاري. 

أقول معظم حلمي ، لا كله ، لأني و قد انتهت الرحلة لم أحظَ  بالفرصة لأعلن لجميع الركاب أن “القاتل بيننا يا سادة” ثم أنخرط في شرح مطول أدور بعدها مادًا إصبع الاتهام  صوب أحدهم صارخًأ “أنت القاتل!”. الجريمة الكبرى على ذاك القطار كانت حرماني من هذه الفرصة ، و لكني أرجو أن تكون هذه الرسالة هي مشهد الصالون الذي فوته بأثر رجعي ، أو أن تروي ضمئي له حتى القطار القادم. 

لذا ، يا عزيزي أسامة ، لابد أنك تتسائل لم جمعتكم هنا أكتب لك هذه الرسالة؟ أكتب لك اليوم لأسرد لك المصاعب و الأهوال التي قاساها القطار السيبيري و ركابه بين الثامن و العشرين من سبتمبر و الخامس من أكتوبر من عام 2019. خذ حذرك في قراءة هذه السطور ، ففي طياتها جرائم و عبر ، و حكايا عن الفضائع التي لا يقترفها   إلا من تخلى عن إنسانيته و أطعمها للوحوش. رافقني في هذه الرحلة ، و اركب القطار بمخيلتك معي ، و حاول أن تنبش الحقيقة قبل أن تظهر لك عيانًا في النهاية على غرار القصص البوليسية. 

الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

الفصل السادس

الفصل السابع

الخاتمة

الفصل التالي


فكرتان اثنتان على ”جريمة القطار السيبيري العظيم

  1. للتو أنهيت هذه التدوينة الرسائلية أو التدوينات إن صح التعبير وفضلت التعليق في لحظتها لحضور المعنى..
    عندما تكون الرحلة في المركبة لا الوجهة سيكون الأمر مختلفًا كما هو هنا.
    قرأتها على فترات متقطعة فوجدت الكثير من المعرفة والزخم الثقافي والتاريخي والأدبي والمحصّل اللغوي فضلًا عن انفراط الكثير من الضحك القلبي. أحببت مزج المعلومة بواقعيّة التوثيق اليومي ونكهة التشويق البوليسي . هذا الطابع المتمازج جدير بالإشادة كونه حرّك فضولي للرجوع للخريطة والمعجم اللغوي وأسماء بعض المدن وقادني للترويح والفكاهة اللطيفة. أرى بأن تدوين هذه التفاصيل متعة لكاتبها وقارئها معًا، كما ستكون مرجعًا للمهتمّين.
    شكرًا على هذه التذكرة المجانية لقطار K19 التي قلّتنا على متنه وأوردتنا تفاصيله وتفاصيل ركّابه التي لم تكن لتغدو بهذا القالب لولا شفرتك الخاصّة في التدوين. دمتَ مُدوّن شغوف.

    إعجاب

  2. جريمة القطار السيبيري العظيم، تقرأ العنوان للمرة الأولى مشددًا على الجريمة العظيمة، وبلا أي أحكام مسبقة أو تصورات فتخالها ليست أكثر من قصة خيالية كُتبت لتطويع جموح ساعات الملل على متن القطار أو انتهازًا للدهشة حال أخواتها من القصص على وجه العموم..
    إلا أن المعنى كان أجزل، أي نباهة إنشائية قادرة على تحوير حدث قد لايعدو كونه حدث عَرَضي مساند للحبكة
    إلى حدث رئيسي؟
    استمتعت كثيرًا، و نسبة كبيرة من هذه المتعة تعود لكون الشخوص مرئية “حية لا مختلقة” على نقيض بقية القصص إلا أن هذا لم يمنعني من تخيل حركاتهم وسماع جلبة القطار متزامنة مع صخب/بطء أحاديثهم حسب شدة الضوء الأخضر للأحداث…
    رائعة جدًا لا لكونها بديعة كمادة قراءة فقط بل لقدرتها على تجاوز زخم الاعتيادية كصور ولحظات حاضرة بالذهن كذلك …
    في انتظار المزيد من الرسائل..

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s