جريمة القطار السيبيري العظيم


Незнакомцы в поезде

التاسع و العشرون من سبتمبر ، 2019

“صباح الخير ، اسمي… اسمي… اسمي جيمس! ما هو اسمك؟”

تصبحت لسعدي بهذه الكلمات التي أعيدت على مسامعي مرتين أو ثلاثًا حتى استوعبت أني لم أعد أحلم و أنهن موجهات إلي. ارتديت نظارتي بعد أن بعثرت محتويات الطاولة المجاورة بحثًا عنها لأنظر إلى باب الغرفة حيث وقف جيمس (32 سنة) طويلًا نحيلًا بملامح أوروبية و كاميرا غوبرو يصور بها محتويات غرفتنا.

“هاه؟!” كان ردي على جيمس ، ملتفتًا صوب رن بحثًا عن الإجابة. و لما لم يجب ذا الأخير عن تساؤلاتي التفت مجددًا نحو الباب لأجد جيمس قد اختفى لحظّه و حظي الشديدين ، فجملتان أخريان  منه كانتا كفيلتين بإقناعي بتغيير دوري في هذه الرحلة من المحقق إلى المجرم. نهض رن العزيز ليغلق الباب وراء جيمس متمنيًا لي صباحًا سعيدًا فأجبته بأن صباحي لم يبدأ بعد و عدت إلى النوم بضع ساعات أخرى. 

لو شئت لأوردت لك جدولًا دقيقًا بساعة وقوع كل حدث ذكرته و بالأخص نومي و استيقاضي ، و لكن هذا سينقل لك تصورًا خاطئًا عن الجو العام داخل القطار. بالطبع مرت الأيام داخل القطار كما تمر خارجه ، و لكن عقارب الساعة خارجه كانت كحد السيف الذي يشق  أنفاس الناس ركضًا أملًا بالإبتعاد عنه مسافة آمنة. أما داخل القطار ، كان الوقت فكرة لا أكثر ، و ساعة الحائط مجرد قطعة تجميلية. سافر القطار في بعد موازٍ خارج عالمنا و وقتنا الاعتيادي  ككل القطارات ، في جو هادئ مسالم يعيدني نحوها كلما طال هجري لها. 

استيقظت أخيرًا و الشمس لم تبلغ كبد السماء بعد ، و غادرت الغرفة طلبًا للإطالة و تفقد مقطورات القطار و ركابها كما تقضي مهام أي متحرٍ مخلص. وتناثرت مقابس الكهرباء بسخاء في جميع الممرات و إن لم تحويها جميع الغرف ، أما الحمامات فكان في كل مقطورة اثنان يتشاركها ركاب المقطورة ، مع غرفة واحدة للاستحمام في القطار كله كانت في مقطورتنا. عدت بعد جولتي الاستكشافية هذه إلى مقطورتي لتناول الإفطار مع رن كما وعدته بالأمس. 

مقطورة الطعام الصينية التي تجاهلتها لتناول الإفطار مع رن

وجدت رن متمكنًا من اللغة الإنجليزية بما بكفي لفتح خط تواصل بيننا شريطة توافر ما يكفي من الوقت و الصبر ، و لدي من كليهما  الكثير. دارت المحادثات بيننا بمعاونة قاموسه الإلكتروني و الآخر  الورقي مع بعض الرسومات التوضيحية و الرقصات التعبيرية من فينة لأخرى ، لا تقاطعها إلا محاولات بوروف المتكررة لبيعنا شيئًا من بضاعته أو خدماته؟ رن في رحلته الأولى إلى خارج الصين – التي لم نغادرها بعد ذلك اليوم – يشجعه على قطعها وحيدًا حبه الجم للقطارات و رغبته في إثبات خطأ كل من لم يثق به من أفراد عائلته قائلًا بأنه سيصبح أسطورة مخلدة في عائلته ما إن يعود إليهم مظفراً  من موسكو. أمضى رن أربعة أشهر قبل بداية الرحلة في بحث دقيق عن كل تفاصيلها وكان وليد هذا البحث  دفتر جلدي بني دون فيه كل ما تعلمه. 

عنون رن دفتره بـ”الدليل” ، و هو نسخة القطارات من دليل أشبال الكشافة الذي أثبت أبناء عم بطوط في قصصه المصورة أنه يتضمن خلاصة العلوم البشرية (أو البطية) كلها بغض النظر عن غرابة المواضيع و دقة المعلومة. استفتح رن دليله بخطوات مفصلة  عن كيفية شراء تذكرة  القطار و التقديم على التأشيرة الروسية ، موردًا عدة خطط بديلة في حال  رفضت التأشيرة أو نفذت التذاكر ، ثم عرج على القطار نفسه و اختتمه بالحديث عن موسكو ذاتها. تضمن الدليل رسومًا تفصيلية لشكل القطار الخارجي و تفصيل الغرفة من الداخل بكل أدراجها السرية و عدد المقابس في كل مقطورة مع خطة للإخلاء في حالة الطوارئ. ملحق الدليل الأول قائمة مطولة لكل يوان صرفه في سبيل هذه الرحلة ابتداءً بسعر الصورة الشخصية التي التقطها لأجل التأشيرة و حتى سعر الاستحمام هذا الصباح. أما الملحق الثاني فجدول مطول لجميع المحطات التي سيمر بها القطار مع وقت الوصول و المغادرة بتوقيت موسكو و توقيت الصين الموحد و توقيت المحطة المحلي ، و قد أثبت هذا الجدول تفوقه على جدول القطار الرسمي في أكثر من موضع. بل و أورد رن في طياته رسمًا توضيحيًا لشكل فندقه في موسكو. كان في الدليل جواب مفصل على كل سؤال متعلق بالقطارات طرحته على رن ، عادة برسوم توضيحية و مراجع داعمة ، سواء كان السؤال عن سرعة القطار أو عمره أو عدد المقطورات فيه أو أي شيء أخر. دليل رن عمل موسوعي حق أن يخلد في تاريخ عائلته و تاريخ القطار ، و قد كرس رن جزءاً من  كل يوم لمراجعة الدليل و الإضافة عليه. لبقية الرحلة ، و مهما توقعت أن دفتر رن قد أظهر كل ما فيه و غدى  عاجزًا عن إدهاشي ، قلب رن صفحة جديدة فيه تثبت خطأي. 

عينة بسيطة من إبداعات رن

في الجانب المقابل كان عملاً مثيرًا للريبة جعل حس المحقق بداخلي يطلق  صفارات الإنذار أصخب من صفارات  التايتنك أثناء غرقها. كمية التفاصيل المرعبة الموردة في الدليل ، بالإضافة إلى وجود معلومات حساسة كخريطة تفصيلية لمبنى الحكم الروسي المعروف بالكريملن ، كلتاها صفتان تدلان و بوضوح على أن رن جاسوس. مظهره الطيب و تصرفاته الساذجة ليست في الغالب إلا نتيجة تدريبات مطولة في فنون التمثيل تخفي ورائها جاسوسًا لا يشق له غبار  في مهمة سرية لاختراق قلب الأراضي الروسية. لم تكن طبيعة مهمة رن (لو كان هذا اسمه فعلًا) في موسكو جلية لي بعد ، و لكني قدرت أن الأيام التالية ستكشفها لي لا محالة ، و أن إحباط مخططات جاسوس بتاريخ مخضرم كهذا ستكون هي البداية المثلى لوظيفتي كمحقق. على الصعيد الآخر  ، خابت أمالي بعض الشيء فقد أملت أن تكون أول جريمة أواجهها على قطار جريمة قتل بدلًا عن مناوشة مع أجهزة الاستخبارات  هكذا. فقصص الجواسيس عادة ما لا تركز على جانب الغموض و التحقيق مستعيضة بوضع المحقق في معضلات أخلاقية يضطر فيها للاختيار بين أهون الشرين. و لكن القطارات و الجواسيس متلازمان في العوالم الروائية كتلازم الجواسيس مع الجواسيس ، و لذا أذعنت و رضيت ، راجيًا أن أكشف في الأيام القادمة حقيقة مهمة رن قبل أن يفتك بجميع ركاب القطار. 

اقتطعت لنفسي جزءًا من عصرية ذلك اليوم لمراجعة ما أعرفه عن تاريخ القطار السيبيري و قراءة ما أحضرت معي من المراجع عنه. معرفة تاريخ مسرح الجريمة من الأوليات التي لا يهملها المحققون ، فتاريخ مسرح الجريمة يساعدك على تخمين طبيعة الجريمة التي ستقع فيها مع هوية المجرم بدقة تقارب اليقين في بعض الأحيان. كمثال بسيط ، إن كانت الوفاة في منزل يشاع عنه أنه مسكون بالأشباح فالقاتل بالطبع وريث المالك السابق للمنزل الذي توفي فيه و قد عاد لينتقم من المالك الحالي. هل الجريمة في قصر إقطاعي؟ إذن فالقاتل هو كبير الخدم لا محالة. أما إن كان في منزل القتيل خزانة مخفية فلا يعدو الأمر حالتين: إما أن يكون القتيل مجرمًا كذلك ، أو أنه على الأقل خان أرملته بشكل أو بأخر. و قس على هذا يرحمك الله لبيان أهمية التاريخ. 

عربة القطار الصينية الرئيسية التي جرتنا إلى الحدود

لذا هاك شذرات من تاريخ  القطار عساها تساعدنا في هذه القضية. لم تكن سيبيريا و الشرق الروسي من ممتلكات روسيا طوال عمر تلك الأخيرة ، فتاريخ روسيا في بدايته كان محصورًا بأوروبا حتى توسعت روسيا بطمع استعماري غربًا و شرقًا مبتلعة أراضٍ كانت في الأصل مستقلة أو منغولية أو صينية. و قد تدل على هذا التاريخ مدن شرقية منغولية الاسم مثل أولان أودي ، أو مدينة فلاديفستوك على ساحل المحيط الهادئ الصينية أصلًا ، والتي  لها اسم أخر بالصينية. 

في نهاية القرن التاسع عشر: كانت روسيا قلقة من عدم إحكام سيطرتها على إقليم سيبيريا و ضمه بشكل ثقافي كلي إلى مركز البلاد الغربي. كما كانت روسيا رغم حجمها الشاسع بدون مرافئ بحرية تذكر سوى  واحد يتيم في مدينة القديس بطرس على بحر البلطيق ، أما شواطئها الشرقية على المحيط الهادئ فبعيدة عن مركز البلاد في موسكو الغربية. و أخيرًا ، خشيت روسيا توسع دولة استعمارية أخرى أشد وحشية و بطشًا هي اليابان الإمبراطورية آن ذاك.

الطريقة الأسرع لقطع سيبيريا وقتها كانت الإبحار عبر الأنهار غربًا إلى الشرق و خاصة عبر نهر أوب العظيم ، و هو خيار ممكن خمسة أشهر في السنة تتجمد الأنهار بعده. يمكن استعمال الأنهار ذاتها كطرق لزلاجات تجرها الأحصنة بعد تجمدها ، و لكن هذا الخيار رغم جماله و شعاريته غير عملي بتاتًا. لذا قرر القيصر الروسي وقتها بناء سكة حديدية تقطع روسيا من شرقها إلى غربها تصل موسكو بالمحيط الهادئ.

المدهش في هذا المشروع هو أن الحقبة الزمنية التي بدأ فيها تعني أنه كان مشروعًا يدويًا بالكامل. تخيل معي بناء سكة حديدية طولها يفوق التسعة آلاف كيلومتر قبل أكثر من قرن  من الآن بلا شيء سوى  الأحصنة و المعاول الحديدية و ظهور الرجال في أبرد بقاع العالم المأهولة. ظروف العمل القاسية هذه أدت إلى تحول العمل على الخط السيبيري ، و في سيبيريا عمومًا ، إلى عقاب يعاقب به المساجين السياسيين في تلك الفترة. و جملة “النفي إلى سيبيريا” كانت تجد الدماء في العروق مجازًا قبل أن تجمدها برودة سيبيريا فعليًا. 

استطرد هنا لأقول أنه و رغم إتمام المشروع السيبيري عام 1904م إلا أن النفي إلى سيبيريا مع الأعمال الشاقة (غالبها من قبيل توسعة و ترميم الخط السيبيري أو العمل في المناجم) بقي عقوبة مفضلة لدى الحكام الروسيين إلى فترة قريبة نسبيًا. و من أشهر من نفي إلى سيبيريا الكاتب الروسي الشهير ديستوفيسكي. أما أشهر من نفي إلى سيبيريا على الإطلاق فهو الشخصية الروائية ضابط المخابرات المصري أدهم صبري المعروف برجل المستحيل ، و هو من القلائل الذين هربوا منها بنجاح. و إليه أنسب أول معرفتي بوجود سيبيريا على وجه البسيطة. 

بعد سنين قليلة من بناء الخط السيبيري بدأت الحرب الروسية اليابانية في مطلع القرن العشرين. كانت روسيا و اليابان حينها  في مرحلة استعمارية تسجل أفعالهم فيها وصمة عار على تاريخ البشرية جمعاء ، نهشت فيها روسيا أجزاءً من مانتشوريا الصينية بينما عاثت اليابان فسادًا في كوريا. و على ناموس “اللهم اضرب  الظالمين بالظالمين” الكوني ، اندلعت بين تلك القوتين حرب في شرق روسيا و شمال مانتشوريا عندما تعارضت مطامعهما الاستعمارية. استمرت هذه الحرب تسعة عشر شهرًا في حرب تاريخية تعرف في بعض الأوساط بالحرب العالمية صفر. جاءت  خسارة روسيا بجدارة في تلك الحرب كصدمة لم يتوقعها  العالم الغربي ، بدأت عهدًا داميًا استعمرت فيه اليابان دول جنوب شرق آسيا  و استحلت نسائها في تاريخ تصعب قراءته رغم انقضائه ، لم ينته  إلا بعد الحرب العالمية الثانية. الجدير بالذكر هنا أن روسيا استعملت القطار السيبيري لنقل الجنود من غرب روسيا إلى أرض المعركة في شرقها ، و استغرقت تلك الرحلة حوالي الأسبوعين وقتها و هو طول يورده البعض كأحد أسباب خسارة روسيا في تلك الحرب. 

عودة إلى وقتنا المعاصر و تواجدي في القطار ، كنا نقطع تحت جنح الليل أراضي هولون-بير العشبية الشهيرة الخضراء. و لما كنت راضيًا عن نفسي و عن العالم حولي بعد عشاء دسم من الوجبات ذاتية التسخين التي ابتعتها من محطة بكين ، انخرطت في مهمة تعنيف و تقطيع كلمات أغنية صينية عن أراضي هولون-بير من تراث مسرح بكين الأوبيرالي العتيد. قاطع رن انسجامي حينها ليخبرني بأدب أن يومنا  سيبدأ قبيل الفجر في الغد عند وصولنا إلى الحدود الصينية-الروسية ، و من الأفضل لنا أن ننام مبكرًا اليوم. لو لم يبد  رن اندهاشه  بمعرفتي بتلك الأغنية بداية ، و يعلق أن “الأغاني تقطع الدول ” لظننت  أن النوم عذر اختلقه ليستنقذ طبلتي أذنه  و يوقفني  عن الغناء. 

سأرحم أذنيك من غنائي و أنقل لك الأغنية التي كنت أغنيها بنسختها الأصلية

الفصل التالي


فكرتان اثنتان على ”جريمة القطار السيبيري العظيم

  1. للتو أنهيت هذه التدوينة الرسائلية أو التدوينات إن صح التعبير وفضلت التعليق في لحظتها لحضور المعنى..
    عندما تكون الرحلة في المركبة لا الوجهة سيكون الأمر مختلفًا كما هو هنا.
    قرأتها على فترات متقطعة فوجدت الكثير من المعرفة والزخم الثقافي والتاريخي والأدبي والمحصّل اللغوي فضلًا عن انفراط الكثير من الضحك القلبي. أحببت مزج المعلومة بواقعيّة التوثيق اليومي ونكهة التشويق البوليسي . هذا الطابع المتمازج جدير بالإشادة كونه حرّك فضولي للرجوع للخريطة والمعجم اللغوي وأسماء بعض المدن وقادني للترويح والفكاهة اللطيفة. أرى بأن تدوين هذه التفاصيل متعة لكاتبها وقارئها معًا، كما ستكون مرجعًا للمهتمّين.
    شكرًا على هذه التذكرة المجانية لقطار K19 التي قلّتنا على متنه وأوردتنا تفاصيله وتفاصيل ركّابه التي لم تكن لتغدو بهذا القالب لولا شفرتك الخاصّة في التدوين. دمتَ مُدوّن شغوف.

    إعجاب

  2. جريمة القطار السيبيري العظيم، تقرأ العنوان للمرة الأولى مشددًا على الجريمة العظيمة، وبلا أي أحكام مسبقة أو تصورات فتخالها ليست أكثر من قصة خيالية كُتبت لتطويع جموح ساعات الملل على متن القطار أو انتهازًا للدهشة حال أخواتها من القصص على وجه العموم..
    إلا أن المعنى كان أجزل، أي نباهة إنشائية قادرة على تحوير حدث قد لايعدو كونه حدث عَرَضي مساند للحبكة
    إلى حدث رئيسي؟
    استمتعت كثيرًا، و نسبة كبيرة من هذه المتعة تعود لكون الشخوص مرئية “حية لا مختلقة” على نقيض بقية القصص إلا أن هذا لم يمنعني من تخيل حركاتهم وسماع جلبة القطار متزامنة مع صخب/بطء أحاديثهم حسب شدة الضوء الأخضر للأحداث…
    رائعة جدًا لا لكونها بديعة كمادة قراءة فقط بل لقدرتها على تجاوز زخم الاعتيادية كصور ولحظات حاضرة بالذهن كذلك …
    في انتظار المزيد من الرسائل..

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s