محمد العبدلله شاب سعودي مليح في مقتبل العمر، يعمل في الرياض في إحدى الجهات الحديثة المرموقة التي لا تعرف فعلًا ما إن كانت جهة حكومية أو خاصة، و لكن لهم مقرًا واسعًا في (المدينة الرقمية) في كل طوابقه (سناك بار) مجاني و (فووس بول تابل) لا يمسها أحد لأن (المانيجير) يستعملها دومًا لاقتناص الموظف (الفاضي) ليشغله بالمزيد من المهام. و جدول محمد لا يمهله فرصة للعب الـ(فووس بول) أو النقنقة بالـ(سناكس) على أي حال، فهو يعمل خمسة عشرة ساعة في اليوم، ثمان لـ(تحليل الراتب) كما قال له خطيب الجامع في التسعينات، و أربع ليتفوق على رفاقه في العمل، و الباقي منها تهربًا من (زحمة الدائري) حتى يعود الناس إلى منازلهم – أو يركدوا في مقاهيهم – و يخف زحام الشوارع إلى درجة لا تذكره بيوم الحشر.
يُسر محمد لأصحابه في الديوانية أنه (بيرند أوت) مؤخرًا و لم يعد قادرًا على معايرة الـ(لايف وورك بالنس) بشكل لا يجعله يفكر بالاستقالة عقب كل اجتماع، و يعترف أنه (كاوت همسلف) حاسدًا رفاقه الذين أصابتهم (كورونا) على رأس الـ(باندمك) لما كسبوه من (بريك) و لو مؤقت من الـ(رات ريس) هذا! دق هذا نواقيس الخطر في ذهن محمد، و بدأ باستدراك ما يمكن استدراكه باحثًا عن أي حل كان سوى تقليل عدد ساعات العمل طبعًا. سمع في إحدى الـ(لنش-بريكات) إحدى موظفات الـ(إتش أر) تتحدث عن حلقات الـ(ميديتيشن) الجماعية التي بدأت ترتادها مؤخرًا فقرر تجربة الأمر. ابتاع لنفسه (يوغا مات) و (بامبوو كوشن) و صار يتركها في صندوق السيارة ليختلس أي سويعة فراغ في يومه ليتربع عليها و يغلق عينيه بحلم مفكرًا قدر ما استطاع بفكرة ألا يفكر بشيء إطلاقًا.

لم يطل الموضوع، فرفاق محمد لم يرحموه طبعًا و صار لقب (أبو سجادة) يلاحقه في كل المجالس و يسبقه أحيانًا، ثم إنه عجز فعلًا عن مسألة عدم التفكير هذه و يشكك بإمكانيتها (بيوليجكلي) أصلًا فالعقل يشتغل حتى في المنام! قرر محمد أنه بحاجة إلى حل (أكتف) أكثر، و لما اقترح عليه (تشات-جيبيتي) الـ(مايندفولنيس) صار يستقطع من أول يومه و آخره وقتًا يعدد فيه كلما هو له (ثانكفل)، ثم ابتاع مفكرة ليكتب فيها هذا كله لأن أحدًا على (انستغرام) قال أن استعمال القلم (ريلي جراوندز يو، يو نو).
لا يلاحظ محمد أي فرق و لكن مسألة الشراء هذه تروق له، تبدو طرفًا من الحل، فكل شيء ذو قيمة لابد و أن الـ(ماركت) قد (مونيتايزد إت) كما يقول لذا يجرب محمد حلولًا آخرًا رآها في السوق. يدخل عوالم الـ(ساوند باثس) ثم يتركها بسرعة، يبدأ بشرب الـ(متة) و يستورد لها كوبًا خشبيًا و قشة حديدية من (بوليفيا) ليحترف طقوس تحضيرها كل يوم، ثم يقلع عنها و يدخل في عوالم الـ(انسنس برنرز) و الـ(سنتد كاندلز) و يملأ بها مكتبه حتى بلّغ عنه أحد الشانئين لكونها (فاير هازارد، يو نو؟). جرب محمد كل شيء تقريبًا، و لكن هذا الـ(بيرن أوت) الخسيس يأبى الرحيل، و الـ(لايف وورك بالنس) يبدو أكذب من أسطورة إغريقية، و لكن محمد يواصل المحاولة، و يواصل الابتياع، فهو كما أزلفنا مستعد لتجربة أي حل كان ما دام لن ينقص من ساعات عمله اليومية طبعًا.
ذات عصرية قبل عقد و نيف، كان محمد طفلًا في إحدى أحياء (البطحاء) يركض حافيًا على الإزفلت بين شارعين تحت الشمس اللاهبة. لو اختار (حمدّه) يومها، كما يسميه أترابه، لاختار الانتعال طبعًا، و لكن صندله يلعب دور (عارضة) المرمى اليوم، و قد كان سيعيقه في اللعب على أي حال لذا تقبل الأمر الواقع. أو بالأحرى، كان سيتقبله لو فكر فيه أصلًا، فذهن حمدة منصب بالكامل في الكرة أمامه لأن مباراة اليوم مصيرية مع فريق (سعيدان) ابن جاره تفوح منها نوايا الإنتقام. سعيدان هذا من أتراب حمدّه، كلاهما بنفس العمر تقريبًا، و لكن سعيدان بلغ قبل أوانه فصار أطول و أعرض و أكثر شعرًا و شراسة من أقرانه. هو في تلك المرحلة الحرجة حين تنبت للطفل عضلات يبطش بها قبل أن ينبت له عقل ينهاه عن ذاك البطش، و قد بطش سعيدان بحمده فعلًا و جلده بلا سبب في أكثر من موقف حتى “عض الأرض!” كما قال باكيًا لمدير المدرسة غير الآبه بهذا كله.
يعرف حمده ألا قبل له بسعيدان جسديًا، يعرفه من واقع تجربة، و لم يعد له بالتالي فرصة ينقذ فيه كرامته و و يقتص بجزء من حقه و لو رمزيًا إلا ميدان الكرة. كل شيء يومها على المحك، هذه فرصة حمده الوحيدة، و قد أمضى وقته في الحافلة مشجعًا نفسه بترديد “اليوم ويل من بغى، اليوم ذل من طغى، اليوم يوم الإنتقام منكم في ساحات الوغى”، لو استحالت الأرض أشواكًا أو حممًا لواصل حمدة النضال و الركض وراء الكرة، هذا إن لاحظ أصلًا!

تبدأ المباراة، و ينطلق حمده بين الصفوف، يركض، يقفز، يحاور، يناور، يتملص، يتمرغ، يتدافع، بل يقاتل فعلًا لأن جيش سعيدان مليء بأشباهه من الأوباش. يأكل كوعًا من هنا، و رفسة من هناك، عركلات أغلبها مقصودة، و تسحق وجهه الكرة مرة بركلة مدفعية مقصودة من سعيدان، فالثور يجيد التصويب رغم كل شيء! ينتهي الشوط الأول بالتعادل السلبي، و الأعصاب على أشدها في الطرفين. سعيدان أيضًا يعرف أن موقعه في الهرم الغذائي سيتغير لو فاز حمده اليوم، و لذا لن يسمح بهذا أبدًا! حمده نفسه يعد ما تبقى من أطرافه في الركن الآخر متمتمًا بين أنفاسه المتهالكة “اليوم ذل من طغى، اليوم ذل من طغى!”.
يقرع الحكم الوهمي الجرس لتبدأ الجولة الثانية من المعركة، و ينطلق حمده مرة ثانية. يركض مرة أخرى، يهاجم، يدافع، يلعب دور الوسط، يحمي المرمى بوجهه من كرة مدفعية أخرى لسعيدان، يصارع، يكافح، يحارب، ينازع، يحاول، يحاول جدًا! و لكن الدقائق تمر دون أي تغير في النتيجة. فريق حمده يتناقص، و رفاقه يتساقطون الواحد تلو الأخر شهداء (تكسير) فريق سعيدان، و لكن واحدًا منهم ينجح بانتزاع الكرة في الجانب الأيمن و يرفعها لحمده. يعدو حمده باتجاه الكرة و المرمى، يقفز، يرتفع في الهواء، يحلق صوب قرص الشمس، و يقترب رأسه الصغير من الكرة رويدًا، الجميع يرى المشهد بالحركة البطيئة، يواصل الإرتفاع أعلى فأعلى، لابد أنه على ارتفاع ثلاث طوابق الآن! يلامس جبينه الكرة و يدفعها صارخًا للأمام، تتطاير حبات العرق في كل مكان، ثم تعود حركة المشهد للسرعة الطبيعية لتخترق قذيفة حمده الصفوف معانقة شباك المرمى!

تنتهي المباراة بفوز حمده في اللحظات الأخيرة، و يرفع فوق ما لم يكسر بعد من أكتاف رفاقه بينما يهوي سعيدان منهارًا على ركبتيه. لا نعرف ما لو كان سعيدان قد بكى دموع الندم فعلًا تلك اللحظة، و لكنه فعل في المشهد كما يتذكره حمده. يطوف الفتى المنتصر الحارة مع رفاقه معلنين إسقاط الطاغية و بداية عصر جديد، ثم تخفت الجموع و يعود كل من رفاقه إلى منازلهم ليطببوا جراحهم. يعرج حمده وحيدًا إلى البقالة، يعرج فعلًا بعد أن نضب مخزون جسده من كل الهرمونات التي أنسته آلامه خلال المباراة، ليبتاع علبة (سنتوب) ثم يجر جسده المتهالك إلى حوض (ديدسن) والده ليستلقي متوسدًا الكرة في ظل جدار منزلهم. يقاتل حمده معركته الأخيرة لذاك اليوم لفتح علبة الـ(سنتوب) بأصابعه المهتزة، هذه وجبته الأولى اليوم، ثم يرشف منها رشفة طويلة حلوة باردة ثم يتوقف برهة ليفكر بـ… بلا شيء، لا شيء على الإطلاق. توقف عالم حمده يومها ثم تلاشى و لم يبق فيه إلا مذاق البرتقال البارد في فمه و صوت نسمات الهواء تحرك أغصان الأشجار تحت ظل البيت.

ذلك اليوم، وصل حمده حافي القدمين في حوض (الديدسن) إلى مرتبة من الخواء النفسي و (الروقان) أعلى من الـ(نيرفانا) و الـ(زن) و الكلام هذا كله، و سيمضى محمد الأربع عقود التالية من حياته مكرسًا كل إمكانيات الأسواق العالمية في محاولة للوصول إلى نفس هذا الشعور مرة أخرى. نرجو له التوفيق.
التدوينة عجيبة يا عمر مت ضحك الله يسعدك والرسومات تحفه. بالتوفييق ^^
إعجابإعجاب