على إثر السماح – أخيراً – بقيادة المرأة في السعودية ، و دخول تاريخ 10/10 صفحات التاريخ (الهجري على الأقل) كيوم انفتاح باب طال الطرق عليه حتى ظنناه جداراً ، صح أن أحرث سجلاتي لأستخرج مسودة مراجعة لفلم من عام 2012 شاهدته في السينما بعد صدوره بعام. رغم أن مرور السنين شاهدت اختفاءً تاماً للفلم من على الساحة النقدية ، إلا أني أحسبه قد فاق غيره من الأعمال النشاطية من حيث الحجم و المجهود. و صح هنا – أيضاً – أن أنوه سلفاً أن أي نقد هنا موجه على بنية الفلم الفنية أو رسائله الفرعية ، و ليس انتقاداً لرسالة قيادة المرأة الرئيسية بأي حال.

وجدة ، فلم سعودي رشح للأوسكار و لا أعرف إن كان قد ربح أيا من جوائزه في عامه أم لا. لا أعني أن الأوسكار مقياس لجودة الفلم ، فلا أزال أرى للسياسة دورا رئيسا في ملعب الأوسكار (و تسويق الفلم كأول فلم من إخراج و كتابة امرأة سعودية هي هيفاء المنصور يدعم هذا) ، و لكن الشيء بالشيء يذكر.
القصة
يحكي الفلم قصة وجدة ، فتاة سعودية تعيش في الرياض و تبلغ العاشرة من العمر ، و عن سعيها لقيادة الدراجة رغم رفض من حولها بهدف السباق مع جارها عبدالله الذي يماثلها في العمر. تعيش وجدة وحيدة مع والدة تكاد تكون عزباء من غياب زوجها الدائم ، و يعرف المشاهدة فيما بعد أن والدة وجدة غدت عاجزة عن الإنجاب بعد الحمل بها.
بعد محاولة فاشلة لجمع ثمن الدراجة عبر بيع أساور من صنعها و أشرطة (كاسيت) غنائية منسوخة على زميلاتها في المدرسة ، تقرر وجدة الإشتراك في مسابقة حفظ القرآن في مدرستها طمعاً في مبلغ الجائزة الأولى. أما في المنزل ، فتكتشف أم وجدة أن حماتها قد أقنعت زوجها بالزواج من امرأة ثانية قد ترزقه بالابن التي صارت أم وجدة عاجزة عن إنجابه ، و تشتري على إثر هذا فستاناً أحمراً رجية أن تنال به استحسان و عطف زوجها. تسير أحداف الفلم بشكل طبيعي حتى تفوز وجدة بمسابقة القرآن لتمتنع مديرة المدرسة عن تسليمها مبلغ الجائزة لتتبرع به لفلسطين بعد أن أعلنت وجدة أنها ستستعمل مبلغ الجائزة لشراء الدراجة. في نفس الليلة ، و خاتمة الفلم ، تراقب وجدة على سطح المنزل مع والدتها – و قد خنقت الدموع تلك الأخيرة – عرس والدها على امرأته الثانية. في مشهد مؤثر ، تعانق أم وجدةٍ وجدة قائلة “ما لنا إلا بعض الحين” ثم تكشف أنها قد باعت فستانها الأحمر لتشتري لوجدة الدراجة التي سعت لها منذ البداية ، و ينتهي الفلم صباح اليوم اللاحق بسباق بين وجدة و عبدالله تفوز فيه وجدة.

المشكلة
تقديم قصة الفلم هكذا فيه ظلم له ، فهو لم يكتفي بمناقشة قضية قيادة المرأة للسيكل و حسب بل استطاع حشر كل قضية إجتماعية تخطر على البال. قد يكون هذا أوضح مساوءه ، فهو مكتوب للمشاهد الأجنبي ، و إن كان ناطقا بالعربية ، لذا أخذ على عاتقه مناقشة كل القضايا و عرض كل الصور التقليدية عن السعودية في غضون ساعة و نصف. و هذا يعني حشر مشاهد (خاشة عرض) تدوم لدقائق معدودة و حسب ، كابن الجيران الذي فجر نفسه ليذهب للجنة ، قضية البنت و الهيئة الذي لا يمسك الفلم طرفا فيها ، أو ابنة الابتدائي (متوسط؟) التي زوجها أهلها و جائت اليوم التالي لتعرض صور زفافها على زميلاتها في الصف ، عدم لمس الفتيات للمصحف أثناء الحيض ، و حتى قضايا إدراج الإناث في شجرة العائلة و الواسطة و الغرام في مدارس الفتيات و قهر الكفلاء و لربما لو طالت مدة عرض الفلم عشر دقائق إضافية لتحدث عن التصحر و الاحتباس الحراري.
من الناحية الفنية ، تعارض هذه الإدراجات مبدأ (مسدس تشيكوفChekhov’s gun ) الأدبي القاضي بأن كل عامل يظهر في القصة لابد أن يعود ليحدث أثراً فيها و إلا وجبت إزالته. يستمد المبدأ اسمه من مثال أن إظهار مسدس في الجزء الأول من القصة يحتم أن يتم استعماله فيما بعد و إلا كان هذا وعداً كاذباً بين المنتج و المشاهد ، و هو مبدأ قد يتم تحديه ببراعة كفرض من تحوير التوقعات إلا أن هذا لم يحدث في وجدة.

تؤدي هذه الإدراجات كذلك إلى مساواة – قد لا تكون مقصودة – بين تلك القضايا كماً و كيفاً في ذهن المشاهد. عندما يوضع مشهد في الخلفية دون أن يناقش فهذا يرسخه في ذهن المشاهد كجزء طبيعي من الحياة اليومية ، خصوصاً إن كان المشاهد أجنبياً بلا صورة مسبقة أو بصورة سلبية. و بالتالي ، فتطعيم خلية حياة جودة بجيران انتحاريين فجروا أنفسهم طلباً للجنان ، و فتيات في المتوسطة أو الإبتدائية يزوجن بكهول ثم يشاركن صور زفافهن مع زميلاتهن في مدرسة حي ميسور من أحياء الرياض ، يسم الأمر بسمة الإعتيادية الواقعية خصوصاً عندما تتجاهله وجدة ، بينما الواقع أن هذه القضايا على عكس غيرها شديدة الندرة و الشذوذ يجمع المجتمع كافة على استهجانه.
لا أعني هنا طبعاً تحريماً و تجريماً لمناقشة هذه القضايا في أي عمل فني ، و لكن على الصانع أن يحذر من تبعات الزخارف الفكرية في عمله. عندما يكرس ناصر القصبي حلقتين من مسلسل (سيلفي) لتجسيد شخصية ابن انظم لتنظيم داعش الإرهابي و رحلة والده إلى قبل أراضي النزاع لإعادته ، فإن هذا التجسيد يصنف الابن كشاذ على مجتمع يمثله والده باعتداله المفترض. و الأمثلة الحسنة لأعمال تناقش كل قضية ذكرها الفلم عديدة ، و لكن وجدة ليست منها.

هذه المشاهد – و غيرها – تلقت ذكراً فخرياً في الفلم لا أكثر و قد تدرج تحت قائمة “الافترائات” مع التشديد على علامتي الاقتباس. ابق فلمك عن القيادة و التعدد و التعليم ، و هذا لوحده كثير ، فلن تسع الحياة في ساعة و نصف مهما فعلت ، و نتيجة الحشر لن تكون (و لم تكن) إلا سلبية.
ما له
أذكر لصالح العمل حرصه على الإبتعاد عن فخ “كل الرجال” و “نحن ضد الجميع” المغري الشهير. فرغم وجود والد وجدة كالتجسيد الأقرب للسلطة الذكورية المستبدة أو – على الأقل – الضارة في حياة بطلات الفلم ، ألا أن أفعال الوالد كانت مدفوعة بإلحاح فرد نسائي هو أمه ، و أورد سبب لرغبته في الزواج من امرأة ثانية – عقم الأولى – أرى فيه شيئاً من التعذر لشخصية الأب و رسمها بكادر إنساني معلل بشكل قد لا ينطبق على كثير من حالات التعدد في المجتمع الواقعي. كما أن الأمثلة الذكورية الأخرى الأكثر بروزاً في عالم وجدة ، ابن الجيران عبدالله و صاحب محل بيع الدراجات عديم الاسم كانا مثالين إيجابيين لم يتوقفا عن دعمها و نشر اللطافة طوال القصة. أعتقد هنا أن عمل نجح في تبويب المشكلة دون تجريم الأفراد أو جنس بعينه ، و ظل المتسبب كياناً هلامياً قد تسميه المجتمع أو الأعراف أو ما شئت دون استقصاد و استفراد.

نجح الفلم كذلك في التصوير البصري لحياة طفل في بداية الألفية ، أقول هذا كشخص عاش طفولته في نفس مرحلة الفلم الزمنية و في طبقة و مجتمع مشابهين ن و أعتذر مسبقاً ما إن كان تصوير بواطن مدارس الفتيات خاطئاً فذاك عالم لم أدخله بعد المرحلة التمهيدية. و أعني بالتصوير البصري هنا المشاهد المرئية دون ما قد تتضمنه من رسائل جانبية ورد نقدها. مقاعد المدرسة الخضراء بما عليها من ذكريات “مخاوي الليل” (أو “مخاوية الليل” في حالة مدرسة وجدة) ، شعار وزارة التربية و التعليم القديم ، الملصقات الرقيعة على نوافذ كل سيارة ، الأبواب و البرادات المعدنية ، بل و حتى نوعية الدراجات لتلك المرحلة العمرية لجيل الألفية قبل أن يفتح الله على أبناء هذا الجيل بـ…. لحظة ، أما زال الأطفال يركبون الدراجات أم قد غدت هذه صرعة من الماضي؟ هل لوح التزلج هو رياضة الأطفال (الكوول) الآن أم أهم اخترعوا رياضة أخرى أجهل وجودها بالكلية؟
لا يهم ، لنحاول العودة إلى صلب الموضوع رجاءُ.
أرجو هنا ألا يعترض أحد قائلاً بأن في التصوير أخطاء زمنية كملصق اليوم الوطني الواحد و الثمانون على نافذة حافلة في الخلفية تؤكد أن أحداث الفلم تقع في عقد مخالف للعقد الذي زعمه أو أن لعبة (البلايستاشن) التي كان يلعبها والد وجدة لم تصدر بعد في ذلك الوقت ، فتصيد الأخطاء اللقيماتيي هذا جدير بفوازير “جد الفروقات الخمسة” لا أكثر.
و إن كان الفلم أعلى مستوى من المسلسلات الرمضانية و حجم (البراطم) فيه معقول ، إلا أن مستوى الإنتاج فيه أقل من المستوى الهوليوديي بكثير رغم عدد الفنيين الأجانب المهول الذين عملوا فيه و تدريب المخرجة هيفاء الأجنبي. و أتى خيار خلو معظم الفلم من الموسيقى التصويرية غريباً ظننته لوهلة لأسباب دينية قبل أن أستوعب حمق هذا الظن ، و أجد أن هذا الخيار قد أضعف من تأثير المشاهد الحسي دون أثر إيجابي يشفع له.

غير هذا فالقصة ممتعة ، و الشخصيات الرئيسية الثلاثة لطيفة (وجدة إن تغاضينا عن لسانها السليط ، و أمها و ابن الجيران عبدالله) ، و النهاية جميلة أيضاً نجح فيها مشهد عناق الأم و ابنتها على سطح المنزل بانتزاع خنقة عبرة مني. صحيح أن النهاية تفوح برائحة هوليوديية/دزنية/بيكسارية ، البطل المخالف للمجتمع الذي يتقبله أحبائه كما هو في النهاية. ديباجة مللت منها إلى حد الكراهية ، و لكن عجزي عن وصف النهاية بال”سعيدة” ، لترك أمور غير محلولة كالفتاتين المظلومتين في المدرسة و قضايا أم وجدة المستحيلة العد ، يجيز لها استعمال هذه الديباجة حيث حرم على غيرها ذلك.
و العبرة؟
أخيراً ، هو فلم تجب مشاهدته. إما لتقفز صارخا بحقوق المرأة و تشدب استنكارا لظلمها ، أو لكي تفعل المثل و لكن ضد الغزو الفكري الغربي الإمبريالي شاتماً مغسولات الفكر و شياه بني روم ، أو فقط لتقضية الوقت مع رؤية شيء جديد إلى حد ما.