الطريق إلى ماتشو بيتشو

التسكع في شوارع كوسكو

منذ طفولتي كان لعبارة “هواء الجبال” فحواً شاف غرسته في روايات القرن الماضي الأوروبية ، حيث ينصح الأطباء أثرياء القوقاز بأخذ أبنائهم المرضى إلى الجبال للاستسشفاء ، ابتداءً بصديقة هايدي و أم صوفي و مروراً بكل سكان فرنساً قبل الثورة. و لكن المنية وافت كل من ذكرتهم قبل نهاية رواياتهم بشكل يثير الريبة ، بإصرار لا يبرره كون الموت بالدرن الصرعة السائدة وقتها.

لم تزدني زيارتي لكوسكو إلا شكاً بحقيقة هواء الجبال و إيماناً بأن الأمر كله مؤامرة من أطباء المدن حيث يرسلون مرضاهم العضال ليموتوا في الجبال حيث لا تطال ميتتهم سمعة الطبيب لتلطخها. فكوسكو تعلو سطح البحر بثلاث ألاف و بضع مائة متر ، و هو ارتفاع يدغدغ المخيلة بصور جبال الألب الباردة و نسيم الجبال العليل. و لم تكن مخيلتي يوماً أبعد عن الحقيقة ، فكوسكو – أولاً – تشويها أشعة الشمس مدار العام كما تشوي قارعة الطريق أقدام طفل خلع حذائيه ليعلم بهما مرمى فريق. ثم إن ارتفاع كوسكو يقطع مقدار الأكسجين فيها بالثلث مما اعتدتُ و اعتدتَ عليه عند سطح البحر. و هكذا يغدوا التفريق بين الساكن و السائح في كوسكو سهلاً: أيرتدي من تراه ألواناً زاهية فوق جلد لوحته الشمس و شعر كالح السواد؟ هذا في الغالب أحد سكان كوسكو. أيلهث من تراه عطشاً للهواء كمن أُنقذ لتوه من حافة الغرق؟ أمامك سائح هنا يا صاح. في ظل هذه الظروف ، أمضيت يومي الأول في كوسكو جائلاً شوارع كوسكو على غير هدى بحثاً عن بعض من الهواء و عن بيت خوان ، دليلي في المرحلة القادمة من الرحلة و تذكرة دخولي إلى ماتشو بيتشو.

كان أحد أهداف قدومي إلى بيرو زيارة أطلال ماتشو بيتشو ، أحد عجائب العالم السبع القديمة التي علقت ببالي منذ صادفتها مرة في إحدى ملحقات مجلة سنان. و الرحلة إليها تستغرق أربعة أيام من التخييم في ما يسمى ب”مسار الإنكا” ، منعت الحكومة البيروية الأجانب من القيام بها بدون دليل محلي منذ ما يقارب العقدين لأسباب ربحية. و بين خياري استئجار خدمات دليل أو زيارة ماتشو بيتشو في باص سياحي ، اخترت خوان.

أنا و خوان

و خوان هذا في الأربعين من عمره ، لوحته الشمس و اضافت هموم الحياة على مظهره عقدين من العمر فشاب شعره حتى شف عن فروة رأسه. ينتمي خوان إلى قبائل الكيتشوا ، سكان بيرو الأصليين و أحفاد الإنكا. و رغم معيشة خوان في المدن منذ استوت سنونه ، لظروف عمله ، إلا أنه لا يزال متمسكاً بلسان الكيتشوا الأم و بعلاقته مع رجال قبيلته ، و الذين يتحكمون بأغلب أعمال الحمالين على مسار الإنكا. عيبه الأول و الأخير أنه ينسى الإنجليزية و يتحول إلى الإسبانية – التي لا أعرف منها إلا أقل القليل – عندما يندمج في الحديث ، ثم يتحول من الإسبانية إلى لغة الكيتشوا – التي لم أعرف وجودها قبل لقائه – عندما يزيد اندماجه ، حت يغدو الحوار معه أشبه بمشاهدة قناة الأخبار الروسية.

قابلته يوم وصولي إلى كوسكو ليعرفني على رفاقي الأربعة في هذه الرحلة ، على وعد اللقاء مجدداً صباح الغد لبدء الرحلة. و رغم أنه اختار الساعة الخامسة فجراً للقائنا – و هو الوقت الذي أخلد فيه إلى الفراش عادة – إلا أنني أذعنت للأمر الواقع و حقيقة أنني سأبدأ يومي الأول في الرحلة دون نوم. و قد كان.




آن لي أن أعرف عن رفاقي في الطريق إلى ماتشو بيتشو ، على طريقة السيناريو المسرحي الذي يلخص حياة و مشاعر الشخصية قبل صعودها إلى خشبة المسرح للجمهور و الممثل على حد سواء. و إن كنت من قبل أرى في هذا ضعفاً روائياً إلا أنه الأقرب لواقع الحياة ، حيث يأتي كل من دخل مسرح حياتك بتاريخ قد تفيدك معرفته.

ماركوس سلمان

أولهم سلمان ، فتى سويدي في الواحد و العشرين من عمره و ابن لمهاجرين سوريين. و رغم أصراره بعناد أن اسمه ماركوس ، و أن سلمان هو اسم أبيه ، إلا أنني كنت مصراً على التشبث بأشلاء العربية التي يتحدثها. و أراحتني فكرة أنه إن ثقل المسير و عسر الطريق و نضب نبعي من ألفاظ التوجع و الحلط في في الإنجليزية ـ و الكلمتان في الإسبانية – فسأجد من قد يفهم العربية. عرض خوان على الجميع استئجار حمال يحمل متاعهم و طعامهم عنهم طوال الطريق فكان سلمان أول الرافضين ، و قال أن الوصول إلى ماتشو بيتشو لا يعتبر إنجازاً إن ابتاع طريقه إليه و عبد له. و في نهاية الأمر ، استأجر كل فرد حمالاً – و هذا يشمل خوان – ما عدا سلمان و عداي.

و إن كان سلمان أصغرنا سناً فـ(فريدريك) السويسي كان أكبرنا. صحيح أن فريدريك امتنع عن الإفصاح بعمره الحقيقي إلا أن القصص التي يحكيها من طراز “في أيام مجدي” تدور أغلب أحداثها في زمن يسبق اختراع الكهرباء و اكتشاف الجاذبية ببضع عقود لذا يمكنك تخمين عمره الحقيقي بشيء من الدقة. يقول فريدريك أن أمه تمنت أن ترزق ببياض الثلج و لكنها نست تحديد جنس المولود لذا خرج هو للحياة أبيض من الثلج بوجنتين أحمر من التفاح إلى أخر ديباجة القصص المعتادة. المشكلة هنا أن شمس بيرو لا ترحم أو تفرق بين بيروي أو أعجمي ، و تشوي الكل بلا تفرقة. لذا لم تقع عيناي على فريدريك إلا و هو يدعك وجهه بطبقة إضافية من مرهم آخر مضاد لأشعة الشمس – و حقيبته مليئة بها – حتى تشربت بشرته المراهم حتى الشبع و غدت عاجزة عن امتصاص المزيد لتترك بقعاً من المرهم على وجهه أينما راح.

في إجتماع ما قبل الرحلة أخبرنا خوان أن على كل منا أن يمضي ليلتين في كوسكو على الأقل قبل الرحيل لنتكيف مع الارتفاع و نقص الأوكسجين. و لما كان الإجتماع عقد ليلة واحدة قبل الرحيل كانت نصيحته بداعي تبرئة الضمير لا أكثر ، و كانت تلك ليلتي و ليلة فريدريك الأولى في كوسكو. آثرت أنا الصمت – من منطلق من يخشى الطرد – بينما أبدا فريدريك قلقه ليرد عليه خوان – من منطلق من يخشى فقد أحد زبائنه – أن “لا مشكلة يا فتى.” و “فتى” هذه أثارت حفيظة فريدريك الذي يكبر خوان بعدة سنين ، إلا أننا تعلمنا فيما بعد أن خوان يذيل معظم جمله بلفظة “تشِكوز” أي “غلمان” بغظ النظر عن الفارق العمري.

كارولينا على اليمين و جوالانغ على يسار الصورة

و على صعيد القوارير جوالانغ ، طالبة حقوق من الصين لا تكف عن إلقاء الطرف المتعلقة بالشيوعية و المعارضة للرأس مالية بتكرار و إصرار عجيبين يذكرانك بملصقات الكتاب الأحمر و الرفيق ماو و يجعلان المرء يتسائل لما تدرس الحقوق في أمريكا – أم الرأسمالية – إذن؟ عندما “اعترف” سلمان أن هذه أول رحلة مطولة له في البرية ضحكت و قالت أن هذه أول رحلة لها على أرض غير معبدة بغض النظر عن طول الرحلة. جوالانغ مثلي لا تعرف من الإسبانية إلا أقل القليل ، بينما بقية أفراد الرحلة أفصح من دون كيشوت فيها. و لذا متى ما تحمس البقية و انخرطوا في نقاش مطول بالإسبانية ، نركز ببلادة الأسماك ثم نجتمع سوية لنتبادل ما التقطناه من كلمات نعرف معناها علنا نستطيع استنتاج ما كان الحوار عنه.

أخيراً كارولينا ، التي عرفت بنفسها على أنها أحد أبناء نيويورك بثقة و جأش جعلت الجميع يبتلعون كل ما يعرفونه عن لهجة أهل نيويورك. المرأة قالت أنها من نيويورك إذن فهي من نيويورك ، و ويل لمن يعترض. اكتشفنا فيما بعد أنها ابنة مهاجرين أرجنتينيين ، و لم تتعلم الإنجليزية حتى دخلت المرحلة الإبتدائية ، و إن كانت فعلاً قد عاشت في نيويورك طوال عمرها. تتبع كارولينا حمية نباتية فريدة من نوعها ، قوامها أنها لا تأكل اللحم إلا في الأرجنتين. و تفسيرها لهذا أن مذاق اللحم لا يبرر شناعة جريمة قتل الحيوانات ، باستثناء مذاق الشواء الأرجنتيني الذي – بقولها – قد يبرر قتل البشر لو استدعى الأمر. ثم أنها عاجزة عن شرح معنى النباتية لجدتها الأرجنتينية التي تعتبر رفض أي طعام نوعاً من الرقاعة و كفر النعمة. كارولينا تفوق خوان عمراً ، و إن كانت هي الأخرى رفضت الإفصاح عن عمرها ، و تعيش نصف السنة كمحاسبة في نيويورك و النصف الأخر مرتحلة حول العالم ، كل عام ، لعشرين سنة.




اليوم الأول

في سعينا الحثيث إلى حيث نخيم يومنا الأول ، لم تنقطع أكشاش الباعة إلا بعد الظهيرة ، رغم أننا بدأنا رحلتنا مع طلوع الفجر. و سبب هذا أنا بدأنا الرحلة من قرية كيتشوية يعيش سكانها على بيع كل ما يباع لمرتحلي مسار الإنكا بأغلى الأثمان. تحمل نسائهن و أطفالهن البضائع على أظهر الحمير أو الأحصنة و يبتعدن ما شيء لهن في المسار ثم يفترشن الأرض و يبصطن بعض قوارير الماء و شيئاً من الطعام. بينما يعمل رجال القرية إما في الزراعة أو كحمالين على نفس المسار. و كان قوام معظم اليوم الأول من الرحلة التعرف على من معك محاولاً تأنيس وحشة الطريق و عدم التركيز على المسافة التي تبقى عليك قطعها. و بحلول المغرب كنا قد قطعنا أربعة عشر كيلومتراً ما بين صعود و نزول و تسلق ، و قررنا – أو بالأحرى قرر خوان – التخييم على هضبة ما حيث سبقنا الحمالون بخيام من لم يحملوا متاعهم و نصبوها لهم.

عوائل الكيتشوا على الطريق

حشا كل منا أفواهنا المتعبة بشيء من الطعام كيفما أتفق ، و لم تغرب الشمس إلا و شخير الجميع يسمع على أطراف مسار الإنكا. إلا أن اليوم لم ينتهي بعد ، ففي إحدى ساعات الليل استيقظت على دوي الانفجارات و استغرقني الأمر بضع دقائق لأستوعب أن هذا ليس صوت منبهي ، و بضع دقائق أخرى لأقنع نفسي أن حياتي تساوي أكثر بقليل لذة النوم. لذا دحرجت رأسي حتى أخرج من خيمتي إلى سماء الليل التي كانت متخمة بالمفرقعات بدل النجوم. و مجدداً ، استغرق الأمر برهة حتى تذكرت أن رحلتنا بدأت في الخامس و العشرين من ديسمبر ، و أن الليلة هي ليلة الكريسماس في هذه الأصقاع. إلا أني نسيت نظارتي داخل الخيمة ، و لم تكن الألعاب النارية لي أكثر من مجرد بقع باهتة ملونة في السماء. بينما بدت مهمة الرجوع إلى خيمتي و البحث عن نظارتي ثم الخروج مجدداً جهداً هرقلياً جديراً بالأساطير. لذا عدت إلى الخيمة شاكراً الله على أن أصوات الألعاب النارية ستغطي على الأقل على شخير خوان.




اليوم الثاني (و الثالث؟)

استيقظت في صباح اليوم الثاني من الرحلة شاعراً بالاختناق تحت طبقات المعاطف و البطانية التي احتجتها لدرء التجمد الليلة الماضية. و كان هذا ديدن الرحلة كلها ، حيث يتقلب الجو خلال اليوم ليجبرك على الانتقال من ارتداء طبقة واحدة إلى ارتداء خمسة ثم تعود مجدداً إلى ستر ما يغطي العورة و يرضي الحياء لا أكثر. غادرت خيمتي لأجد جوالانغ و كارولينا خارج خيمتهما تحاولان حشر أقدامهن التي تورمت فتضخمت في أحذيتيهما. هززت رأسي بتحية الصباح المتعبة ثم أخذت فرشتي بحثاً عن كوب ماء و حاساً بعبثية الأمر كله ، فرائحة جسدي ستغطي رائحة فمي بلا شك ، تذكر ألا حمام تستحم فيه هنا. صادفت خوان و هو يتحدث في هاتف لاسلكي بلغة الكيتشوا فهز رأسه لي ، دعاني بالغلام ، و قال أن هذه النقطة هي أخر نقطة يمكننا التواصل فيها مع العالم الخارجي بلاسلكي أو غيره حتى تنتهي الرحلة. ثم ذهب ليزجر مجموعة الحمالين الذين بدأوا بتفكيك خيمة الفتيات و هن فيها.

ننصب خيامنا عادة كل يوم في مدرجات بناها الإنكا قبل مئات السنين

ألتقى الجميع في منتصف مخيمنا ، و كلمة مخيم مبالغة لا بأس بها هنا فالأمر لا يعدو مساحة مفتوحة من العشب ، لطعام الإفطار. و بعد عدة دقائق من الكلام المغمغم الذي يقال و لا يسمع ، قاطع سلمان الجميع ليقول “بالطبع تعرفون جميعاً أن…” و قبل أن أضيع في التفكير عن لم يخبرنا بشيء نعرفه جميعاً أكمل كلامه “تعرفون جميعاً أن فريدريك لن يكمل الرحلة معنا.” و هنا لاحظت أن فريدريك لم ينطق بكلمة واحدة منذ الصباح. كان سلمان قد أمضى ليلته مع فريدريك في نفس الخيمة ، و استيقظ على صوت ذا الأخير يتقيأ ثلاث مرات متلاحقة ، خارج الخيمة لحسن الحظ. حسب كلامه المبعثر ، ففريدريك وقع ضحية هجوم ثنائي من مرض المرتفعات و ضربة الشمس ، و غدا غير قادر على إكمال المسيرة. أبدا الجميع تعازيه الحارة له و أتفقنا أن نلتقي في ماتشو بيتشو ، على أن يستقل هو مجموعة من القطارات و الحافلات و الحناطير حتى يصل إلى هناك.
و بعد نهاية الفطور ، دعا خوان أحد الحمالين و عرف فريدريك به قائلاً: “أرسل معك يما ، رجلا يما بطيئتان لكن قويتان ، يستطيع حملك إن أقتضى الأمر!” تبادلنا أخر الوداع مع فريدريك ، و تمنى لنا من الحظ أكثر مما ناله ، ثم انطلق كل منا في طريقه.




أوقف خوان الركب ليشير بإبهامه إلى جبل بعيد و يتمتم “هناك”. بحلول تلك اللحظة كنا جميعاً قد يأسنا من سؤاله عن معاني كلماته الغامضة ، فمعظم تمتمته كانت بدافع إنقطاع النفس لا أكثر. و الحقيقة كانت أن خوان يقطع هذا المسار ثلاث أو أربع مرات في الشهر ، و كل منها تسرق من عمره بضع سنين. و هو ما لم يجد فيه خوان سبب للتقاعد بعد ، بصفته شيخ الدلالين ، و هو لقب لا يطلقه عليه أحد سواه ، يمنعه كبريائه من التقاعد أو التهاون. و حتى حين يتأخر في خلفية الركب كان يتعلث بقول أنه يطمأن على أبطئنا ، مع أنه أبطئنا.

هناااااااك

رغم هذا كله سألناه عما “هناك” ، و كلنا أمل أن يكون الجواب “ماتشو بيتشو ، وجهتنا الأخيرة” أو درساً عن تاريخ الإنكا و تقديسهم لذلك الجبل – و كل حجر مقدس هنا ، بحكم تقديسهم للطبيعة ككل. أتى جوابه محطماً للأمال و الهمم ، فذاك لم يكن وجهتنا الأخيرة ، و لا حتى مخيمنا لذلك اليوم ، بل ببساطة أعلى نقطة سنقطعها اليوم ، و بعدها أكثر مما قبلها من الكيلومترات.
هناك اعتنق الجميع الأرض عنقة رجل واحد ، حالفين ألا يحركون شبراً قبل غفوة محترمة و متجاهلين تمتمة خوان عن أن وقت مضغ أوراق الكوكا لتجنب مرض المرتفعات قد حان. و بين حديث سلمان عن أن وقت معطفه الأزرق المضاد لمطر الجبال قد حان ، و صوت شخير جوالانغ و كارولينا المتعالي ، ورد في خاطري كلام محمود درويش ، يوافق موقفنا لفظاً و إن خالفه جوهراً:

سأقطع هذا الطريق الطويل، وهذا الطريق الطويل، إلى آخرهْ
إلى آخر القلب أقطع هذا الطريق الطويل الطويل الطويل …
فما عدت أخسر غير الغبار وما مات مني ، وصفُّ النخيلْ
يدل على ما يغيبُ . سأعبر صفّ التخيل . أيحتاج جرحٌ إلى شاعرهْ
تضيق بنا الأرض أو لا تضيقُ. سنقطع هذا الطريق الطويل
إلى آخر القوس. فلتتوتر خطانا سهاماً. أكنا هنا منذ وقتٍ قليلْ
وعما قليل سنبلغ سهم البداية؟ دارت بنا الريح دارتْ ، فماذا تقول؟
أقول: سأقطع هذا الطريق الطويل إلى آخري.. وإلى آخره.




في منتصف اليوم الثاني و بعد جهد جهيد ، وصلنا إلى قمة الجبل الذي أشار إليه خوان في بداية اليوم. و هو جبل يتخطى علوه الأربعة ألاف متر ، قطعناه عبر مسار يسمى بمضيق الميتة ، تيمناُ بوفاة إحداهن هنا. و يقال أن السماء لا تأفك النعيب في تلك البقعة بالتحديد ، أو على الأقل كانت تلك هي الحالة حين وصولنا. مما أعطى سلمان الفرصة ليرتدي معطفه الأزرق بفخر بينما تلحف البقية بأكياس بلاستيكية ليتجنبوا أن يضاعف البلل وزن حمولتهم. شخصياً ، كان بلل متاعي أقل همومي ، فبين المطر و العرق ، غدت نظارتي مبتلة أكثر من عبوات المياه الغازية في دعايات الكولا. و غدا كل ما بعد أكثر من أرنبة أنفي ظلاً ملوناً لا أكثر.

و لكن حالتي لم تكن الأسوأ على الإطلاق هناك ، فبينما كان الجميع يتبادلون التهاني و يلتقطون الصور التاريخية على سفح الجبل بقت جوالانغ وحيدة في الخلفية دون حراك. ثم صرح خوان أن وقت مواصلة المسير قد حان ، أن أردنا الوصول إلى حيث نخيم قبل مغيب الشمس ، و حينها أعلنت الفتاة أن “يا جماعة… أعتقد أني مصابة برهاب المرتفعات.” هناك بين السحاب ، على ارتفاع يفوق الأربعة كيلومترات ، اكتشفت جوالانغ رعبها ، بلا حل للخروج من هذا الموقف إلا الانحدار من الجبل كما صعدته.

سعادتي على القمة المذكورة

و بذكائه المعتاد تطوع خوان ليخبرها بأن طريق النزول أسوأ من الصعود ، مليء بالمنحدرات و الجرف. لسبب ما أجهله ، لم تجد جوالانغ في كلماته الحنونة القدر الكافي من التشجيع ، لذا ملأت الدنيا نواحاُ أجزم أنه دعم اعتقاد السكان بوجود شبح ميتة المضيق إياها. بعد شيء من التشجيع و كثير من التربيت – قامت كارولينا بمعظمه بينما بقية الرجال يتظاهرون بالبكم و الصمخ – رست جوالانغ على أن طريق العودة لن يقول رعباً عن إكمال الطريق ، لذا إن كانت ستمضي بقية رحلتها على شفا الإنهيار فلم لا تكافئ نفسها برؤية ماتشو بيتشو في نهاية الدرب. و هكذا أكملت جوالانغ اليومين الأخيرين من الرحلة زاحفة على الأرض متى ما اقتربنا من منحدر ، و داهمتها نوبة هلع في تلك الليلة ، و عجزنا عن الوصول إلى المخيم إلا بعد مغيب الشمس في اليوم التالي. و مع هذا كله ، باتت جوالانغ و بات فريقنا على بعد خطوات قليلة من ماتشو بيتشو في ليلة اليوم الثالث ، على أن نواصل المسير مع طلوع الشمس و نصل إلى ماتشو بيتشو في الصباح الباكر.




الوصول إلى ماتشو بيتشو

مظاهر الفخر الوطني في ماتشو بيتشو قبل أن (يشخط) على أحد الحرس بعدم استعمال أعلام غربية

بعد أربعة أيام من التخييم و قطع الجبال ، صعدنا و انحدرنا فيها خمسة كيلومترات على مسيرة ثمانين كيلومتراً و نيف ، وصل ركبنا الصغير إلى ماتشو بيتشو في الرابعة صباحاً، و قبل وفود جموع السواح على الباصات من القرى المجاورة. و كما كان الوعد ، قابلنا فريدريك على أبواب المدينة المهجورة حاملاً معه شيئاً من الحلوى لنا “فلابد أنكم افتقدتموها” كما قال.
و في أوقات الفرحة و الظفر ، لا يضير المرء شيء من الوطنية لبلاده بداع أو بغير داع. و لما لم يكن في ما يكفي من الطاقة ، أو الحماس أيضاً ، لأصدح بالنشيد الوطني ، أوفى هذا بالغرض.




شيء من التاريخ

و ماتشو بيتشو آية معمارية تبهر الأبصار و تسحر العقول ببنيانها ، ألان الله لأهلها الحجر كما ألانه لإرم ، و سخر لهم الجبال كما سخرها لقوم ثمود. فترى هذا في نعومة أحجارها المرصوصة صفاً صفاً بلا خلل ، و في مدرجاتها الزراعية التي تسقى بمر السحاب. عبد قومها رؤوس الجبال و نصبوا عليها بيوتهم على عدة طبقات ، و إن خلت قلوبهم منها ، و شيدوا بينها السلالم و المصاعد ليسهل عليهم التزاور. ثم إنهم حفروا مجاري المياه من قمم الجبال المجاورة المغطاة بالثلوج ليسيل و يطوف على مزارعهم و مساكنهم بيتاً بيتاً ، فكان أحدهم لا يخطوا أبعد من باب داره ليجد الماء سلساً بارداً سبيلاً متاحاً. و لما كان تدوين العلم أساس الحضارة ، أتخذوا من الحبال كراساً و قلماً. و مرادة هذا البديع أن الحبال كانت تؤخذ فتصبغ ثم تعقد فتعلق ، فيكون في ألوانها و ترتيب عقدها من المعنى ما يفهمونه و يجهله غيرهم.

و لما كان أسلوب كتابتهم مجهولاً لغيرهم ، لا يزال تاريخ ماتشو بيتشو مجهولاً في أغلبه ، و جل ما نعرفه عنها تخمين لا أكثر. فكما أسلفنا الذكر ، عاث المستعمرون الأسبان في حضارة الإنكا الفساد ، و لكنهم مع هذا لم يصلوا إلى ماتشو بيتشو ، إذ لا تذكر سجلاتهم الاستعمارية شيئاً عنها. و مع هذا ، لا تزال أجزاء عديدة من ماتشو بيتشو قيد الإنشاء ، بشكل يفيد أن أياً من كان مسؤولاً عن بنائها قرر النفوذ بجلده و ترك كل شيء ورائه. لذا يؤمن أغلب الباحثين بأن أهل ماتشو بيتشو قرروا هجرها خوفاً من بطش الإسبان.

يعجزني تصور أن يكون هذا المشهد الصباحي الذي يستيقظ عليه من عاش في ماتشو بيتشو من غلمان حين عمارها

كان أول من وجد في نفسه ما يكفي من الغرور لنسب كل هذا لنفسه امرء يدعى بينغهام ، ارتحل إلى بيرو في مطلع القرن الماضي بحثاً عن مدينة أثرية تدعى فيلكابامبا مبعوثاً من جامعة يال الأمريكية. رماه حظه في كوسكو ثم في محيط قرية أغواس كالينتس ، أقرب المدن المأهلوة إلى ماتشو بيتشو منذ ذلك الوقت و حتى الآن. هناك أخبره أحد سكان القرية بوجود أطلال عظيمة في الجبال المحيطة يدعوها السكان بماتشو بيتشو ، أي الجبل العتيق. بمساعدة دليل محلي ، وصل بينغهام إلى ماتشو بيتشو ظاناً أنه وجد فيلكابامبا أخيراً بعد طول عناء ، و كناها بذلك بل و هرب شيئاً مما وجده من التحف إلى يال. حيث بقيت هناك مسببة أزمة دبلماسية لم تحل إلا برجوع التحف إلى بيرو بعد مائة عام ، أي قبل سبع سنين من يومنا الحاضر.
و كل من زار تحف الفراعنة المصرية في أصقاع أوروبا يعرف أن سرقة التحف هواية للمستعمرين و أشباه العلماء ، و أن أحفاد هؤلاء لا يتورعون عن التعلث بأي كان لإبقاء ما أنسوا وجوده بينهم و در عليهم من الربح أوفره. و أذكر من أقبح هذه القصص أن سفينة إسبانية محملة بذهب بيروي – سرق أيام الاستعمار – اكتشفت في سواحل كولمبيا قبل عامين ، و لا يزال النزاع على حمولتها قائماً حتى الآن. فإسبانيا تزعم حقها بداعي إسبانية السفينة ، و بيرو تطالب بمالها المغتصب ، بينما تردف كولمبيا أن كل ما وجد على أراضيها أو تحت مائها فهو لها. و بين هذا و ذاك ، أعلنت شركة أمريكية أنها اكتشفت نفس السفينة قبل ثلاث عقود و لذا لها الحق في نصف الحمولة. و لا يزال النزاع قائماً إلى يومنا هذا.




طريق العودة

بعد قضاء يوم في ماتشو بيتشو ، انحدرنا إلى قرية أغواس كالينتس ، و اسمها يعني حرفياً المياه أو الينابيع الساخنة بالإسبانية. هناك أمضينا ما يكفي من الوقت لملئ كروشنا ثم نقع ثيابنا و أجسادنا النتنة في ماء الينايبع حتى أنستنا تعب كل الأيام الماضية. ثم ركبنا القطار الذي أوصلنا إلى مدينة أويانتاتامبو. حيث كادت الحافلة تغادر بدوننا لولا أن كارولينا صبت جام غضبها بالإسبانية على رؤوس كل سكان المدينة حتى أذعن الباص و أعادنا إلى حيث بدأت رحلتنا قبل أربعة أيام ، إلى كوسكو.

محطة القطار في قرية أغواس كالينتس

عدت إلى كوسكو بعد أربعة أيام قضيتها في أحراش و جبال بيرو ساعياً الحثيث إلى ماتشو بيتشو. و على أسلوب الأفلام الكرتونية لم أجد مدينة الذهب المفقود ، كما وعدني البائع في أراكيبا ، و لكن الذهب الحقيقي كان الرفاق الذين كونتهم في الطريق. لذا عندما عدنا جميعاً إلى كوسكو قررنا أن نتناول وجبة إحتفالية في أي مكان يقبلنا ، فأقدامنا المنهكة و ثيابنا النتنة لم تدع لنا ترف الاختيار. و بعد عشاء لا يجدر بالذكر ، قررنا أن نمضي بقية وقتنا في كوسكو سوية و أن نتشاطر تكلفة استئجار جناح في إحدى النزل. هنا قفز سلمان عارضاً أن يزاملني في الغرفة ، و عيناه تتلافيان الالتقاء بفريدريك قدر الإمكان. كان سلمان يحاول تحاشي تكرار تجربة الاستيقاظ على رائحة قيء فريدريك و لذا عرض ما عرضه. و لكن إن كان اليومان التاليان قد علماني شيئاً ، فهو أن فريدريك بريء مما أصابه ، و سلمان – أو معطفه الأزرق العتيد – يجلب النحس و سوء الحظ لمن يشاركه السكن أكثر من قطيع من القطط السوداء.

هنا أقف لأذكر أمراً ألفته ، و هو أن كثيراً مما يقرأه أو يسمعه المرء يعلق في ذاكرته كتشبيه أو مزاج لا أكثر ، كلام منمق يسلي المرء لفظه و يقنعه بأن فصاحته لابد أن تحمل فيها كثيراً من المعنى. و لكن واقع الأمر ، أن كل أشعار صفية بن عبدالمطلب في رثاء أخيها حمزة – رضي الله عنهما – لا تترجم لوعة فقدان الأخ لمن لم يكابده ، مع فارق التشبيه. و في هذا المعنى قال الشاعر ، و لعله كان يزيد بن معاوية:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده و لا الصبابة إلا من يعانيها
لا يسهر الليل إلا من به ألم لا تحرق النار إلا رجل واطيها

و لكن فصيح البيان ، و درر اللسان ، تعلق بالأذهان. و حينما يمر المرء بما قرأ عنه يتحول إيمانه به من حق إلى علم اليقين. و فجأة يغدو كلام قيس أكثر من رقاعة منمقة ، و إن كنت لا أعني أنني وقعت في الحب في كوسكو – معاذ الله – مع شيء سوى الطعام.

ذكرت هذا لأن يوم استيقاظي في النزل في كوسكو ، كنت أستوعب ببطء تشبيهاً قرأته في ترجمة لأحد روايات ستيفن كينغ. فيه كانت ألام (بول شيلدون) تمثل له كصخرة في عرض البحر تدك باطنه و تزلزل بنيانه متى ما ظهرت إلى أن تسأم أو يتناول دواءه فختفي ثانية خلف الزبد الأبيض ، حتى يمضي المد و يحين الجزر ثانية ليتكرر الألم من جديد. استقر التشبيه ببالي منذ قرأته حتى ذلك اليوم ، و ليته ظل حبيس الورق لي.

الأكسجين المعلب و الإستلقاء على الأرض مع رفع قدميك هي الوصفة المنزلية لتخفيف أعراض مرض المرتفعات

كان أول خطبي أن عيني احتقنتا و احمرتا بالدماء. ولا أعني هنا احمرار عينيك بعد السهر ، بل احمراراً من قبيل ما قد تتوقعه لو قطرت شيئاً من الشطة في عينيك. ثم دارت الدنيا و أنا لا أزال مستلقياً على ظهري ، حتى غدا فراشي مركباً تطوح به أمواج البحر ، و وجدت يدي تتشبثان لا شعورياً بأطراف الفراش. و مع الدوران أتى ابنه البكر ، غثيان جاف لا تجد معه ولا حتى السلوى في تخيل أن الاستقاء قد يخفف شيئاً من مصابك ، فهو كما أزلفت جاف. و رغم خلو بطنك ، تكاد تقسم أن معدتك تضاعفت عشر مرات في الحجم لتسحق رئتيك حتى يغدو كل نفس جهداً يتلف عضلاتك و تشعر به كخنجر في جانبك. و إن أغلقت عينيك اتقاء دوران العالم حولك ، اكتشفت أن المنظر كان يلهيك عما يحدث بداخلك ، و بالتحديد الصداع الذي كاد يشطر رأسك حتى لتقسم على أنك تحس بالشق الفاصل بين جزئي مخك.

عندها لاحظت أن سلمان لم يزل معتنقاً فراشه و وسادته ، رغم أن الشمس توسطت كبد السماء. و كان عهدي به أن يكون أول المستيقظين ليمارس اليوغا مع شروق الشمس. ثم أتى وقت صلاة الظهر و كلانا طريح فراشه ، فقدرت أنه سيصليها مع العصر جمع تأخير. ثم حان موعد العصر و الحال على ما كان بلا تغيير ، فتمتمت ضاغطاً على أسناني مخافة أن تفارقني صرخة توجع بدل الكلام:

“سلمان؟”
“هااااه؟!”
“أتحس بما أحس به؟”
“إن كنت تحس بدنو أجلك فنعم.”
“تباً.”




دعني أختصر عليك يومين قضيناهما في التخمين و الإستشارة لأقول أني و سلمان قد أصبنا بداء المرتفعات ، و شاركنا في هذا المصير السعيد جوالانغ و كارولينا. و هو ما عرفناه بعد أن تحاملنا على أنفسنا و جر كل منا الأخر إلى بهو النزل لنجد جوالانغ جثة هامدة و كارولينا بصلابتها المعتادة. و إن دل وجود شعرة واحدة في غير مكانها المألوف على رأس كارولينا أنها تمر بألم يدك الجبال و يغير مجاري الأنهار. و بدا أنهما مرتا بنفس ما مررنا به ، و إن تجاهلتا الأمر في أوله حتى تفاقم. و رغم كون كوسكو أخفض ارتفاعاً من أعلى نقطة وصلناها في مسارنا الأربعة أيام الماضية ، إلا أن أجسادنا استوعبت لتوها الارتفاع، أو عجزت عن تحمل نقص الإكسجين أكثر مما فعلت حتى الآن. و لما كان الجميع عاجزاً عن الحركة اقترعنا لنقرر من يخرج ليحضر ما نحتاجه من دواء و طعام ، و كان الطرف الخاسر في هذه القرعة أنا طبعاً. ألم أقل لك أن سلمان و معطفه الأزرق يجلبان النحس؟

ملصف إعلاني لدواء مقاوم لمرض المرتفعات

زحفت مرغماً إلى الصيدلية المقابلة للنزل ، و على واجهتها إعلان لدواء فيه صورة كرتونية للاما مصابة بمرض المرتفعات تبدو كشتيمة لكل السياح الضعفاء ، و أشرت إلى صورة اللاما فأعطاني الصيدلي الدواء بلا نقاش فاهماً مصابي من شكلي. ثم ابتعت بعض طعام الأطفال و الحوامل المعلب من نفس الصيدلية ، فلن تجبرني أي قرعة كانت على زيارة محلين في حالتي هذه – ثم يممت عائداً. و في بهو النزل ، وجدت رفاقي متحلقين حول أسطوانة أكسجين جهزها مالك النزل لمثل هذه المواقف ، يتبادلون القناع بينهم كما تدار البخور في المجالس ، فانضممت لهم مطالباً بحصتي من الهواء. و رغم أن استنشاق الأكسجين خفف من حدة الصداع مؤقتاً ، و كذلك فعل الدواء – المصنوع من أوراق الكوكا ككل شيء هنا ، و لولا بقية باقية من الحياء لارتدوه بدل الثياب. و لكن الحالة لم تزل مما يرثى لها العدو ، و بعد يوم و نصف من هذا العناء أعلنا جميعاً الاستسلام و أنا لا نملك من الجلد لمقاومة نقص الأكسجين هنا. رامقين بشزر أكوام الأطفال الراكضين في أرجاء المدينة بلا مشكلة عابين الهواء بجشع بينما غيرهم يحتاجه أكثر منهن.

و هكذا ، استقل كل منا أول رحلة استطاع حجزها عائدين إلى ليما (بينما توجه سلمان إلى بوليفيا) إلى مستوى سطح البحر. و هناك ، اختفت صخرة (بول) تحت أمواج المد حيث لا تزال إلى الآن.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s