مقابر رعاة البقر: أطلال القرية الغربية في مدينة نيكو اليابانية

إن استقليت ، يا صاحبي ، قطار نيكو ماي البخاري من وسط محافظة طوكيو متجهاً نحو الشمال إلى أطرافها الأقل تمديناً ، لفوجئت بقطعة من قلب القارة الأمريكية تستقبلك في اليابان. و بالتحديد ، سيطل أربعة من الرؤساء الأمريكيين القدماء من نافذة قطارك: إبراهام لينكون ، ثيودور روزفلت ، جورج واشنطن ، و توماس جيفرسون. منحوتين على جبل صغير يبلغ حجمه ثلث أصله في ولاية داكوتا الجنوبية الأمريكية.

أجزم بأن لنكن كان ليفضل الإعدام بالرصاص على حالته هذه

و الأرض حول ذاك الجبل خربة مهجورة ، تبدو للرائي كأحد القرى الأمريكية القديمة كما تمثلها أفلام رعاة البقر بأسيجتها الخشبيه الشاهقة التي تصد هجمات الهنود الحمر ، و ساحة البلدة الرئيسية ببنكها الذي يسرق كل يومين و ما يحيط به من اسطبلات و محلات و منازل. و إن أطلت البقاء قد يحالفك الحظ ، أو سوءه ، بمقابلة أحد سكانها – أو مقابلة جثثهم. لا يعيش هناك اليوم إلا جثث إلكترونية ، كانت في السابق مجسمات آلية صممت لتتفاعل مع زوار المكان محاكية أبطال أفلام رعاة البقر من قس المدينة و مأمورها و حتى مجرميها. و اليوم تآكلت أجزاء المجسمات الخارجية البشرية لتكشف عن هيكلها الإلكتروني بشكل يشبه شخصية أرنولد سواتشينغر في اللحظات الأخيرة من أي أفلام التيرميناتور.

جون واين في حالة لا تماثل مثاليته في بقية أفلامه

عيناك لا تخدعانك يا صاحبي ، تلك الدمية فعلاً تحاكي جون واين ، الممثل الأمريكي الأسبق ، و كلما أطلت التحديق بها و بأعضائها المكشوفة ازدادت احتمالية أن تتحرك كما برمجت مسبقاً لتلحق بك في أرجاء القرية. و ذاك ، صراحة ، أمر لا أتوق له ، فجون في جميع أفلامه لم يكن رؤوفاً بمن يقع بين براثنه من غير شاحبي البشرة أمثالي ، ولا أعتقد أن زومبيه الآلي سيحيد عن طباعه يوم كان حياً. لذا أقترح عليك أن تتبعني إلى بقعة آمنة أكثر هدوءًا في هذه القرية ، و دعني أقص عليك تاريخها و كيف آلت إلى ما هي عليه اليوم. أصغ لي السمع ، و تجاهل كل الأصوات الأخرى فهي من ألاعيب الرياح لا أكثر و إن بدت كخطوات أقدام تفتش المبنى غرفة غرفة بحثًا عنا.

ساحة القرية الرئيسية

هل أنت مستعد؟ إذن ، دعني ابدأ.




 في سبعينيات القرن الماضي ، كان بوسع زوار مدينة نيكو اليابانية التمتع بإحدى أمرين لا ثالث لهما: إما الاسترخاء في الينابيع الساخنة أو عيش تجربة رعاة البقر الأمريكية في مزرعة كينوغاوا ، و هذا أكثر بواحد من عدد الخيارات المتوفرة في نيكو اليوم. في المزرعة ، كان بإمكان الزوار الاختيار بين ركوب الخيل و اصطياد الأسماك أو تعلم استعمال الحبال للإمساك بالمواشي عن بعد بالشكل الذي خلدته الأفلام الكرتونية.

ملصق ترويجي للقرية في أوج مجدها ، و الحقوق لأصحابها

امتلك المزرعة حينها ياباني ثلاثيني (غير جاد بتاتاً ، كما ستوضح القصة) يدعى أومينامي ترعرع في حب أفلام الغرب المتوحش الأمريكي و بطولات رعاة البقر. رافق أومينامي في طفولته والده في رحلة إلى ولاية أريزونا الأمريكية ، نظراً لعمل الوالد في تجارة النحاس و ثراه الفاحش ، فكان أن خلبت قرية تومبستون الأريزونية لب أومينامي و ضلت عالقة فيه حتى تقلد مفاتيح خزائن العائلة في شبابه فبنى مزرعة كينوغاوا لينقل ما كان يعيشه في خيالة في طفولته إلى واقع جيل أبنائه.

مزرعة أوميناوي عام 1979م

غير أوميناوي لاحقاً اسم مزرعته إلى القرية الغربية بعد أن بدأ بتنويع ما فيها من الفعاليات بأن بنى مدرجات على مدخل القرية و استقدم مجموعة من المخاطرين و رعاة البقر ليمثلوا قصة أربع مرات في اليوم أمام الجماهير مستعملين القرية مسرحاً لهم. قصة ملحمية من تأليفه جمعت كل ما عشقه من عناصر تلك العوالم من مطاردات على ظهور الخيل و نزالات بالمسدسات الدوارة في قلب الظهيرة و  رجال غلاظ قساة تكفي خشونة لحاهم لبرد الأضافر. أمام عيون الجماهير الشاخصة قفز الممثلون من على ارتفاع طابقين إلى ظهور الخيل أو إلى مصرعهم حسبما استدعته الحبكة ، بل و أدخلوا الجماهير أحياناً في القصة في فقرة يستعرض فيها مأمور البلدة مهاراته في السوط و إطلاق النور (بذخيرة حية) بأن يصيب تفاحة من على رأس متطوع من الجماهير ، تطوع غالباً عن جهل.

لم يهدف أومينامي يوماً لجني المال (و إلا لما أطلق الرصاص على زبائنه) ، كان هدفه هو نقل خياله إلى الواقع و “صنع أحلام الجميع” كما قال مرة. و مصداقاً لكلامه ، أعاد تدوير أرباح القرية الغربية لتوسعتها من مجرد مسرح و إسطبل إلى مدينة ألعاب متكاملة بتيمة ثابتة ، و ربما كان في هذا هلاكه فيما بعد.

أنا (للأسف) جاد بشأن إطلاق الرصاص

استمر أومينامي في توسيع حلمه يوماً بعد يوم ، و لم يجتمع قرشان في جيبه لأكثر من أسبوع ، و بدأ بإدخال نسخ آلية من أبطال أفلام رعاة البقر و شخصياتها لتدور حول القرية و تتفاعل مع الزوار. أؤكد لك أن الدمى الألية وقتها كانت في حالة أفضل من وقود الكوابيس كما هي اليوم.

مقطع موسيقي تم تمثيله في القرية الغربية حين مجدها

ازدادت شعبية القرية حتى فاق عدد زوارها السنوي المليون زائر عام 1995م ، و ارتحل أومينامي في ذاك العام إلى ولاية داكوتا الجنوبية طلباً للاستجمام فقادته قدماه إلى جبل رشمور. و رشمور هذا تحفة هندسية في مدينة رابدسيتي الأمريكية نحتت فيها وجوه أربعة من الرؤساء الأمريكيين الأكثر شهرة و تأثيراً في تاريخهم على سفح جبل من الغرانيت. أطار حجم العمل لب أومينامي ، و أصر على أن ينقله إلى القرية الغربية بغض النظر عن عدم توافقه الكلي مع تيمة رعاة الأبقار. و لما عجز عن سرقة الجبل كاملاً متخفياً بالظلام ، قرر بناء نسخة مصغرة منه بثلث حجم الأصل.

السيد مونامي أمام نسخته من جبل رشمور

مدد أومينامي زيارته لداكوتا الجنوبية و لم يغادرها حتى حصل على موافقة المدينة باستعمال ملكية الجبل الفكرية في اليابان. يقول الأغلبية أن المدينة الأمريكية وافقت على الأمر كفرصة لتشيجع السياحة اليابانية إليها ، بدليل أن المكاتب السياحية في اليابان بدأت بعرض رحلات إلى الجبل لزبائنها ، و لكني أعتقد أن السبب الحقيقي هو خوف سكان المدينة من رفض طلب رجل استعبد نسخة ألية من جون واين و يطلق الرصاص على زبائنه في وقت الفراغ.

كان حفل افتتاح النسخة في اليابان في نفس العام ، قطع فيه حاكم ولاية داكوتا الجنوبية البحار ليصافح أومينامي و يقلده منصب حاكم الولاية الفخري و مفاتيحها معلناً بدأ علاقة أخوة بين مدينتي رابيدسيتي و إيماإيتشي (حيث نسخة أومينامي) بحضور وفد من الولاية الأمريكية ازدحم بكل من هب و دب من عمدة المدينة و بعض هنودها الحمر و حتى عدد من الفائزات في مسابقات الجمال هناك.

اختتم أومينامي ذاك الحفل بابتسامة عريضه قائلاً أن مثلاً شعبياً عندهم يقول أن الهمم و الشغف تشقان الجبال ، و لكنها نحتتها في حالته هذه. كما ترى ، لم يكن فن النكتة ضمن مواهب أومينامي ، و لكن أغلب الحضور لم يتحدثوا اليابانية على أية حال.




مقطع دعائي للقرية

استمر أومينامي بالتوسع حتى أضاف قرية كاملة على الطراز المكسيكي في الجانب الأخر من النهر على حدود أرضه ، مضيفاً و قطاراً حقيقياً يطوف حولها. و بدا حينها أنه لا يعرف أي حدود ، و ربما واصل التوسع حتى حول أرض اليابان كلها إلى مدينة ألعاب ضخمة تعيش في زمن رعاة الأبقار.

إلا أن موقع القرية الغربية كان عقبة في وجه أرباحها لبعده عن أي مدينة رئيسية و عن سكة القطار السريع كذلك. و بعد أن زال ضجيج نسخته من جبل رشمور تناقص عدد الزوار سنة تلو الأخرى حتى التهمت ديزني ما تبقى بافتتاحها منتجع بحر ديزني الشهير في قلب طوكيو. حاول أومينامي استنقاذ ما أمكنه بتخفيض تذاكر الدخول إلى أقل من النصف إلا أن هذا لم يكن له تأثير إلا تعجيل نهايته و زيادة ديونه. و ازدادت ضغوط البنوك عليه مطالبين بدفع بقية ما اقترضه منهم لبناء جبله – ما يفوق المائة مليون ريال وقتها – حتى استسلم و أغلق القرية في منتصف عام 2006م واعداً بإعادة افتتاحها نهاية العام بعد أن يعيد النظر في حساباته.

بقايا عائلة الدبب السعيدة

و بعدها؟ لا شيء. اختفى أومينامي من الصورة ، ثم حل وقت إعادة الافتتاح الموعود و انقضى دون أن تزول السلاسل من على أبواب القرية أو يعود الرعاة إلى القفز من أسوارها. و انتشرت إشاعات بإفلاس أومينامي الرسمي سراً.

مر على أغلاق القرية ما يفوق العشر سنين ، و لم يحرك فيها ساكن عدا نمو الأعشاب و من وقع عليها صدفة مثلي و مثلك ، و ربما تحركت دماها بين الفينة و الأخرى لالتماس كهربائي أو ما شابه. الرأي عندي أن ضمير أومينامي يماطل ، و لم يسمح له بإزالة أطلال حلمه و إن عني هذا بيع الأرض لإزالة شيء من ديونه.

لو غادرت معي ملاذنا هذا بحذر متحاشين الدمى الإلكترونية المتحركة حول المكان ، و عبرت معي بقايا الجسر المعلق كثير الإهتزاز و الفجوات فوق النهر ، ثم قطعنا سكة الحديد إلى حدود القرية المكسيكية على الجانب الأخر لشاهدت معدات الهدم الثقيلة هناك و قد تلاحقت عليها الأعشاب و الغبار كبقية المكان بعد أن هدم كل منها متراً مربعاً حوله. و لكن وقتنا على وشك النفاذ ، فأيام أهل القرى تنتهي مبكراً. لذا لنرجي استكشاف بقية القرية ليوم أخر و نلحق بأخر قطار يغادر المكان فإمضاء الليلة هنا مخاطرة لا أعتقد أن أي منا يحبذ خوض أهوالها.

أضف تعليق