استيقظت من قيلولة الظهر صبيحة اليوم الوطني الفائت على مقعد الراكب في سيارة تقطع “رأس الشيخ حميد” ، ذاك اللسان البري غرب تبوك و الذي يمتد داخل خليج العقبة حتى يكاد يلامس جزيرة تيران. بعد دقائق من الصمت أعلن أسامة من مقعده أن دوره في الراحة حان. كنا نستغل العطلة لقطع الطريق حول معالم تبوك ، و بطبيعة ضيق الوقت تبادلنا القيادة و الراحة. لا توجد الكثير من الشوارع على “رأس الشيخ حميد” ، هو طريق واحد يقطعه إلى نهايته ثم يتفرع ليتجه شمالاً نحو قرية مقنا ، و لذا ما إن قاربنا نهاية الخط لم يضنني البحث لألمح هدفنا على الشط المقابل. و رغم اختلاط ألوانه بألوان الرمال و تموجات السراب ، لا يزال هيكل ما تبقى من طائرة رأس الشيخ حميد “الغامضة” واضحاً للعين المجردة ، و لم يستغرق الأمر إلا دقائق لنكون عند جثمانها.

كانت الطائرة من نوع الطوافات القادرة على الهبوط على البر أو فوق سطح البحر على حد سواء ، تلك التي اشتهرت آبان و أثناء الحرب العالمية الثانية و يحشرها المخرج الياباني العبقري هايو ميازاكي في كل عمل يمت له بصلة. يبعد جثمانها عن الشط المقوس على شكل هلال خطوات لا أكثر ، و بدا واضحاً أن تتابع المد و الجزر و هبوب الرياح أذاق هيكل الطوافة الخراب. في الواقع ، الحديث عن “جثمان” الطائرة بصيغة المفرد مخل بالحقيقة إلى حد ما ، فأشلائها كانت مبعثرة في كل حدب و صوب كصنيع قصاب تكاثر عليه الزبائن في نهار العيد. كانت الكومتان الأكبر جسد الطوافة ، بجناحه المهول المتهالك الذي تهاوى ليهشم مقصورة الركاب ، و ذيلها على بعد بضع مترات لا أكثر. و بشكل أولي ، بدا أن حادثة هبوط مريعة شطرت الطائرة إلى شطرين ، و ساعد على تخيل هذا مقدمة المحرك المغروسة في الأرض.

أما داخل الطائرة ، فقد عرّي من كل شي ممكن سوا الجدران التي تجعل “داخل” الطائرة “داخلها”. التففنا حول الطائرة مرة و اثنتين و تسلقنا جناحها بل و قلبنا ما استطعنا قلبه دون تخريب محاولين البحث عن أي شيء كان يدل على تاريخ الطائرة أو انتمائها على الأقل ، و لم نجد في أخر الأمر سوا رموز باهتة بحجم الذراع تقول N5593V . قارب الوقت صلاة العصر ، و كنا قد استنزفنا المنطقة و ما حولها تمشيطاً ، لذا قصدنا أقرب مبنى للصلاة فيه ، و كان ذاك مبنى لحرس الحدود كأمثاله المترامية على أنحاء تبوك بحكم ملاصقتها للحدود الغربية و الشمالية. استقبلنا الحرس بحفاوة و حبور ، و لكن أحدهم لم يعرف عن الطائرة إلا أن محاولة جادة لإصلاحها قد قامت قبل سنين و بائت بالفشل. بعد انتهاء الرحلة و شيء من البحث ، وجدت الحكاية في عدد لمجلة Life الأمريكية من عام 1960.

خلفت الحرب العالمية الثانية ورائها ترسانة من الأسلحة تكفي لافناء العالم عن بكرة أبيه مرتين أو ثلاثة. و رغم أن معظم هذا العتاد بقي حبيس المخازن حتى يسرقه أحد أشرار أفلام جيمس بوند ، إلا أن بعضها لاقى نهاية أشرف بقليل. كطوافة أمريكية مقاتلة من طراز كاتالينا اشتراها المليونير الأمريكي توماس كيندل لينزع منها المدافع الألية و يأثثها لتتحول إلى منتجع طائر. كانت نية توماس إمضاء سنة من حياته التقاعدية مرتحلاً حول العالم على طائرته مع زوجته و ابنائه و سكرتيرته و ابنها و مراسل واحد من مجلة Life. طاف السرب حول العالم حتى وقع به المطاف في مصر ، حيث حلقوا فوق الأهرامات ثم استمعوا لجوقة غنائية صعيدية عجزت عن أجد تسجيلها.

يروي توماس ما حدث بعد ذلك قائلاً أنهم قطعوا خليج العقبة إلى شواطئ تبوك (في إحدى ليالي رمضان) حيث حطوا فوق سطح الماء مقررين أن يمضوا ليلتهم. رأى توماس خيال رجل على هضبة قريبة ثم سمع هتافه فهتف مجيباً له أي “سلام! وي أر أوكي!” ثم أوى إلى فراشه. في الصباح الباكر ، نثر توماس أبنائه على الشاطئ ليأخذ جولة تفقدية على الطوافة ثم انضم لهم ما إن انتهى. بحلول العصر ، انطلقت أول رصاصة تجاههم. يقول توماس أنهم قد رأوا جماعة من مرتدي الثياب العسكرية أثناء تفقد الطائرة في الصباح و لكنهم لم يلقوا لذاك بالاً ، و لكنها عادت و معها إمدادات ليبدأ إطلاق الرصاص من جانب واحد.
بطبيعة الحال ، صرخ توماس بأتباعه ليسرعوا إلى الطائرة محاولاً الإقلاع بها و متحاملاً ألم رصاصة أصابت حوضه. إلا أن طياراً جريحاً و طائرة مخرمة بطلقات الرصاص نادراً ما تقلع بعيداً ، و لذا اصدمت الطوافة و علقت بحاجز مرجاني على الشاطئ لتجبر الجميع على الارتجال و تسليم انفسهم تاركين معظم متاعهم ما عدا علم أمريكي تلحفوه إعلاناً للهوية. بحلول ذاك ، استوعب توماس أنه في عهدة القوات السعودية ، و بعدها تم عصب أعين البالغين و قيادة الجميع إلى مركز العمليات.

هناك ، أعطيت عائلة كيندل و مرافقوها شيئاً من الطعام و الشراب ثم حملوا على متن شاحنة أخرى أخرى أعلمهم مترجم أنها ستقلهم إلى مشفى ليقابلوا “الملك”. كان “الملك” طبعاً هو الأمير خالد بن سعود ، رئيس الحرس الوطني آن ذاك ، الذي حضر شخصياً ليتحقق من الأمر. و عبر المترجم ، قيل لتوماس أن القوات حسبتهم من الجيش الصهيوني ، و بعد التحقيق و العودة إلى الطائرة مجدداً أتحف الجميع إلى وليمة فطور رمضان بعد أن بانت برائتهم ، و هو ما ينسبه توماس لتدخل طيار الأمير الأمريكي ، ثم حلق بهم إلى جدة ليقابلوا السفير الأمريكي قبل أن يقفلوا العودة إلى بلادهم تاركين الطوافة ورائهم.

على نهاية قصة أثرت في نقلها الالتزام بالموضوعية ، أبدي قدراً جزيلاً من الامتعاض على عجز توماس ذاته و كثير ممن روى قصته عن الالتزام بالمثل. ختم توماس مقاله عن الحادثة بانتقاص “تملص” الحكومة السعودية من اللوم في تلك الحادثة. و هو نعيب يكرره معظم من روى القصة عنه و هم كثر ، لكون طوافته إحدى أخر الطوافات من نوع الكاتالينا في العالم. و بهذا نستهل ، فطراز طائرته كان المفضل لدى قوات الاحتلال الصهيوني في ذاك الوقت ، و من مستهل الحديث أن العدوان الصهيوني على دول الجوار كان في أوجه حينها ، و كانت السعودية في حالة حرب مع الكيان الصهيوني. و رغم نزع توماس للمدافع الألية من هيكل طوافته أثناء تحويلها إلى ما آلت عليه ، إلا أن قمرة المدافع كانت لا تزال هناك بشكل يمكن رؤيته بسهولة حتى يومنا هذا. مراد القول هنا أن اشتباه شلة توماس كعملاء صهيونيين أمر طبيعي إن أخذت الظروف بعين الاعتبار. و بالطبع لن يطلق أي جندي عاقل سراح من اشتبه بالجاسوسية لمجرد تلويحه بجواز أمريكي قد يكون مزيفاً ، و لكن توماس لا يرى هذا طبعاً.

فوق ذاك ، لم يورد توماس في مقاله ، و لم يورد أي من ذكر القصة شيئاً عن استئذانه المملكة قبل الهبوط فيها ، فضلاً عن استخراج التأشيرة اللازمة لذلك. صحيح أن الروايات الحديثة للقصة تزعم أن السيد كيندل أمضى ليلته في جزيرة تيران ، و جنسيتها كانت و لا تزال محل اختلاف ، مما يدفعه لجانب الضحية المظلومة. إلا أن تضاريس المنطقة لا تتوافق مع القصة إن صدق هبوطه على تيران ، كما أن مقال مجلة Life المكتوب بخط توماس ذاته أورد خريطة أورد فيها موطن هبوطه على شواطئ تبوك.
لم يبذل توماس أي جهد لإخفاء تقززه أو تعاليه على كثير مما رآه ، حيث يصف الجنود البدويين بالأمية و النتن أكثر من مرة ، يبدي غضباً عارماً تجاه عدم مضي جميع اموره بسلالسة و فرش بساط من المخمل الأحمر أمامه ما إن أعلن عن أمريكيته أو لوح بجوازه. تتراوح روايته حول تعامل الجنود معه بين مدح قليل و كثير من الذم ، كنقده الطريقة التي مد بها أحد الجنود يده بعيداً عن جسده متحاشياً لمس زوجة كيندل عندما أراد مد أمر لها ، و يبدو أن توماس اخطئ احتشام الجندي و غيرته كتلاعب بامرأته. كما يزعم أن قول الطبيب أن في جسده “كتلة حديدية على شكل رصاصة” تهرب من الحقيقة لا دقة طبية. و لكن ، يبدو أن القوات كانت متسامحة كفاية لتترك آلة تصوير توماس معه ليذيل بمقاله صورة لهم في “الأسر”.

و اليوم ، يضل حطام طوافة توماس جاثماً على خليج سهام في تبوك ، لتجمع الصدأ و يتهاوى جزء أخر منها كل يوم ليطمر الحكاية و الحقيقة عن الجميع تحت طبقة أخرى من الرمال.