رفات كهل على جادة الشارع الثالث

ستيف مشرد ، و هذا ألطف نعت تصفه به بحيث تحيد الأمر تماماً و تصنفه تحت “ظاهرة” إجتماعية أخرى ثم تنسى الأمر برمته. أهذا هو اسمه الحقيقي؟ لا أدري ، و هو أيضاً لا يدري ، فقد نسى اسمه الذي ولد به منذ أن كف الناس عن الحديث معه ، و لم يعد أحد يدعوه بأي شيء حتى يحتاج لاسم. تقدير عمره مستحيل ، فأنا و أنت يذيب شمعتة حياتنا فتيل واحد هو الوقت ، أما شمعة ستيف فألقيت في أتون البؤس لتنهشها النيران من كل صوب.

ستيف ليس كبقية المشردين ، ستيف هو ما يقصده المشردون بالمشرد. و قعر الحضيض الذي يرمقه كل منهم حامداً ربه أنه لم يصل إلي هذه الحالة بعد. فهو على عكس أغلب المشردين لا يملك معطفاً مهترءاً يرتديه فوق طبقتين أو ثلاثة من الثياب على مدار الفصول ليقيه البرد و الحر و كل ما يتقى منه ، و ليس موسوراً كمايكل الذي يملك منزلاً تحت الجسر – و بـ”منزل مايكل” أعني لحافاً صوفياً خشناً و مجموعة من علب الماء الفارغة. ستيف لا يمتلك كبقية المشردين كيساً يكنز فيه مالم تسلبه الدنيا منه بعد ، و لا آخراً يحفظ فيه ما وجده في القمائم و قدر أنه قد يفيده في يوم أو ليلة. كل ما يمتلكه ستيف هو ما يرتديه ، و كل ما يرتديه هو قميص قصير الكمين ، بنطال مهترأ و حذائان متخالفان.

أمر به كل يوم لأجده لم يبارح موضعه في الأمس ولا قدر شبر ، حتى ليخاله المتردد ملصقاً آخراً من التي تملأ الجدران. ستيف لا يحمل ورقة يشرح فيها مآسي حياته مستجدياً المال ، ولا يرمق المارين بنظرات العطف آملاً بمن يمن عنه بما يسد رمقه. كل ما يفعله ستيف هو الاستلقاء في محله و النوم ، فأي خير يجنيه من الوعي؟ كان فيما سبق يمني نفسه بقدوم الموت ليريح روحه مما هي فيه ، و لكن آمن الآن أن الموت قد تخلى عنه في زمرة من فعلوا و لن يعطف عليه ولا بهذه. و صار يريح نفسه بنوم طويل بلا أحلام ، فالأحلام ترف لي و لك لا له ، وعقله – على الأقل – رحمه و توقف عن تعذيبه بتصوير مالن يملكه. أتطلب منه العمل و كسب ما يسد رمقه؟ كان ذاك حلماً من أحلامه في الماضي ، و لكنه اكتشف أنه قد غرق في دوامة لا فرار منها: هو مشرد لأنه بلا عمل ، و لا أحد ينوي توظيف مشرد. و تلاطمته أمواج هذه الدوامة حتى أنهكت جسده و لم يعد يصلح لأي عمل كان حتى لو وجد من يوظفه. هكذا يمضي ستيف حياته ، يتناساها ، منتظراً انتهائها.

على بعد ناصيتين من موقع ستيف وجدت مطعماً رخيصاً أقرب ما يكون للبوفيه ، و كل رواده من الطبقة الأدنى من المتوسطة. لمحت المطعم بزاوية عيني و أمضيت طريقي ، و إذا بي بستيف. يعرج ساحباً ساقه اليسرى خلفه. و لم أدر أحدداب ظهره لحظتها كان لحدب فيه أم من تركيز نظره على السنتات المعدودة في راحة يده. و كأنه يخشى أن تسلبها الدنيا منه لو بارحت بصره للحظة أو تلحق بحيث راح كل ما عز عليه لو أنزل يده. و على وجهه ارتسمت سعادة الدنيا و ترقبها ، سعادة أم وجدت طفلها في الزحام ، و ترقب أب للحظة يصاحب صراخ زوجته فيها صياحاً. و على وجهه رأيت سعادة من تذكر حلماً نساه منذ زمن ، حلم تناول وجبة مهما صغرت تكون له. وجبة أعدت خصيصاً له ، و ليست مجرد بقايا تصدق بها عليه مار بعد أن لم يجد مكاناً لها في معدته.

تلك الليلة ، نام ستيف بلا أحلام كعادته. ليس لأن عقله رحمه مجدداً ، بل لأن كل أحلامه تحققت.

إيهاب و حيتان و أشياء أخرى

لفضت كل محاولاتي السابقة لبدء مدونة أول و أخر أنفاسها في مهدها كفكرة لا أكثر لما أضعت من الوقت محاولاً اختيار أو اختلاق التدوينة الأولى. أقنع نفسي كل مرة أن التدوينة الأولى تحدد اتجاه المسير ، و لذا عليها ألا تقل جودة عن الملحمة التي عشعش طيفها أفكار هيرمان ميلفل حين كان يمضي أيامه و لياليه في كتابة المسودة الأولى لرواية (موبي ديك) صارخاً و عيناه تبصقان الشرار و النار حماسةً أن “أعطوني فوهة بركان (فيزوف) لأستعملها كمحبرة!!”. و لكن الرواية – على عكس تدوينتي – لم يحد مضمونها بما يلائم تدوينة أولى من المواضيع ، و لذا – طبعاً – أنهى هيرمان روايته و بقيت أنا بلا مدونة أو تدوينة.

لذا أحاول الآن إقناع نفسي بأن المدونة إن طالت لتصبح مشروعاً ذا فحوى فلن يرهق أحد إصبعه بدحرجة كرة الفأرة أو شاشة هاتفه ليصل إلى هذه التدوينة ، أما إن لم يطل المشروع فلن يكون للتدوينة الأولى مغزى على كل حال. الطريقة المثلى للبداية هي ترك (بركان فيزوف) و حيتان المحيط الأطلسي و شأنها و الابتداء بشكل أكثر تواضعاً.

لذا بسم الله الرحمن الرحيم نبدأ: أنا عمر الصغيّر ، عشريني أتأرجح بين الجدية و عدمها ثلاث مرات في اليوم ، أكتب هذه الحروف من على كرسي هو أحد المقتنيات الغامضة التي تظهر في منزلك يوماً دون أن يشتريها أحد و تضل هناك حتى يرثها أحفادك مع المنزل أو تختفي لتظهر في منزل آخر على الأرجح.

الزمان الآن هو الأيام الأخيرة من الصيف. يسمي أهالونا أخر أيام الشتاء بأيام “بياع الخبل عباته” كناية عن أن غير العليم سيسارع إلى بيع معطفه معتقداً بأن برودة الشتاء قد انتهت و أزالت الحاجة له ، و في خبايا هذا التعبير دلالات على ما عاشه أهالونا من فقر تجعل بيع ثياب كل موسم على نهايته ضرورة حياتيه ، إذ أن موطن الإعتراض في ذاك المثل هو وقت البيع لا فعله. عموماً ، و على ذلك السياق ، أدعو من على منبري هذا لتسمية أيام الصيف الأخيرة هذه بأيام “كشتات الغشيم” ، و اللفظ يشرح نفسه. أما المكان فيمكن استنباطه من سياقنا هذا.

بهذا أختم و به استهللت ، و ربّ يسّر و أعن.