
بضعة أسابيع تفصلني عن التخرج لا أكثر ، و مفارقة ديار ألفتها إلى أخرى عهدتني أألفها أكثر ، و إن لم أختبر هذه الألفة منذ زمن. مضت علي أيام و في من الحنين لوطني أكثر مما ألفت مقاساته.
يقال أن وطنك هو حيث من تحب ، و حيث تفهم بلا شرح و تحب بلا شرط ، و لكن الوطن في فهمي غير ذلك. هو أصلك و جذورك ، و أمر لا يبرز جماله و قدره أكثر من في الذاكرة ، و بين طيات الحنين. و إن كان ابن الخطاب رضي الله عنه قال “من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام” فمثله أعني أن من لم يعرف طعم الغربة لا يعرف حب الوطن. أذكر أني قبل يومين أو ثلاثة وجدت أخيراً طبقاً من طعام طفولتي الشعبي الذي لم أذقه منذ قرون. و رغم أني لم أكن أعبأ بهذه الطبخة قبل مقدمي هنا ، و لا أزال لا أفضل طعمها مقارنة بأي وجبة أخرى ، إلا أنها ملأت قلبي بمشاعر قد أعجز عن وصفها إلا بتعبير: أحسست بالاستقرار. و ذاك هو الوطن عندي ، هي أرضية غرفة طفولتي الخشبية بما عليها من روايات متناثرة ، و زوايا منزلي كما أذكرها لا كما هي الآن ، و هو الدولة التي وهبتني أول هوية أقابل بها بقية العالم.
أنا الآن ، خلال كتابة هذا الخطاب ، أستمع لأغنية “يا أطفال العالم La Terraluna” التي غنتها هالة الصباغ في مهرجان Zecchino d’Oro 44 الغنائي.
حين انتقلت هالة من الإيطالية إلى العربية في غنائها ضج الجمهور بالتصفيق ، و لكن دعني ألفت نظرك إلى التغير الذي طرأ على مغنيتنا الصغيرة نفسها ، إلى الثقة التي كست صوتها و الراحة التي علت محياها ، لكم يذهلني أن تبدو راحة الرجوع إلى استعمال لغتك الأم على شخص بهذا العمر. “لننادي من أكبر منا مستقبلنا في أيديكم” ، من لي بنشوة تضاهي الصدح بالغناء بلغتك؟
ذاك هو الوطن ، إلى حيث يصبو و يحن الجميع ، و أكثر موضوع قتل شعراً و نثراً. أذكر أن أحد رفاقي قال أن حبه للغة العربية يمنعه من الزواج من شخص لا يتقنها ، و هذا لب ما أعنيه. فكيف تحب شخصاً بحق إن لم تعرف و تفهم ماضيه و خلفيته؟ و كيف تفهمني ، و ما أتخيله و ما تتخيله عند سماع كلمة “قمر” يختلفان؟
و رغم كل ما أقوله ، و رغم كل الحنين ، فلو دار بي الزمان لاخترت الغربة ثانية ، و لا استبدلها بدرر المشرق و المغرب. فمواقف كموقف هالة شرارات لا ترى في ضوء النهار ، و يراعات لا تؤنسك إلا في ظلام الليل. هن قمري و نجومي في ليالي الوحدة الدامسة ، و لولا ظلام الليل لما عرفت النجوم. مواقف كهذه ، و مشاعر كتلك ، حقها أن تنسى لتذكر. و الآن أعرف يقيناً من أنا و ما أكون ، و لم أكن لأعرف كيف يبدو مركبي ما لم أترجل عنه.
و لا أستطيع الشعور بالاستقرار ، إن لم أعرف شعوراً غيره.