
يكره ميخائيل الجزيرة التي يعيش عليها ، و قلعتها و كنيستها و كل من ارتادها من الزوار. و لكم أيقضه قرع نعالهم في أول الصباح فخرج على غير هدى هارباً من صخبهم و عاداً الدقائق حتى تغلق الجزيرة أبوابها و يعود الهدوء و الملل كما كان. اعتاد في السابق الخروج من الجزيرة حتى آخر النهار لتلافي جموع الزوار ، ثم أقلع عن تلك العادة بعد أن أطال التسكع ليلة حتى ارتفع المد مغطياً المعبر البري الوحيد للجزيرة ليتركه بلا خيار سوا النوم في العراء. قد يبدو لك النوم تحت النجوم و على مرأى القلاع شاعرياً و لكني أضمن لك نسيان الشعر و أهله إن استيقضت على رائحة الأبقار كما فعل ميخائيل تلك الليلة ، و قد تضاعف استهلاكه للحوم بعد تلك الحادثة بحماس انتقامي مخيف.
ثم إن العودة إلى الجزيرة مع خروج قطعان السياح يعني أن أحدهم كالعادة سيلاحظ الطفل السائر عكس التيار و يحاول تجاذب الحديث معه بإنجليزية خنفاء أو فرنسية كسيحة ، و هو مالم يمانعه ميخائيل لولا علمه بأن الحوار يقود دائماً إلى تلك الجملة الكريهة:- “أحقاً تعيش هنا؟! لكم أحسدك!” “نعم عزيزي؟! إن كنت حقاً تحسدني فبادلني الحياة!! لا يهمني أين تعيش ففيه بالتأكيد أناس بعمري أو – على الأسوأ – يكبروني بأقل من سبع أضعاف! لا تقلق فلن يلاحظ سكان الجزيرة اختفائي فآخر مرة حاد أحدهم فيها عن مساره اليومي بين فراشه و واجهة محله أسطورة تروى لي و أشكك بصحتها ، و لو تذابحت الشياطين و السباع على بعد شبر من ذاك المسار لما ألقوا لها بالاً.”
لحسن الحظ عادة ما يفر السائح قبل أن يحاول ميخائيل إجباره على تبادل الثياب و بطاقات الهوية. و لا مبالغة في ما يقوله ميخائيل بتاتاً ، فهو قادر على عد لقاءاته بمن يماثله في العمر على أصابع اليد الواحدة ، لو كانت يده عديمة الأصابع.
يعرف ميخائيل سكان الجزيرة التسعة و أربعين كلاً باسمه ، و يستغل أي فرصة ممكنة لاستعراض ذاكرته عبر سردهم واحداً تلو الأخر بالترتيب الأبجدي. و قد اخترت حذف هذا المقطع هنا حفظاً للمساحة و خوفاً من مسائلة أحفاد الراحل تولكين القانونية. ثم إن في بريق عينيه أثناء ترتيله أسماء السكان ترقباً مخيفاً يذكرك بمثيله في عيني المدام دوفغاج التي كانت تحيك أسماء أعدائها على القماش في “حكاية مدينتين” ، رائعة ديكنز. قد لا يصل الحماس به إلى حد المقاصل كما وصل بدوفغاج ، و لكن في جوفه روحاً ثورية لم يطفئ جذوتها بعده عن بقية الأراضي الفرنسية. أرجح الأقوال أنه اكتسبها خلال فترة دراسته القصيرة في مدينة ليون ، و التي كلفته زيارتها عدة أسابيع من الرجاء حتى وافق والداه على مضض.
على عكس ما قد يتوقعه المرء ، كانت شعبية ميخائيل في ليون جارفة تخطت حدود مدرسته إلى باقي المدينة ، و لكم ردد مراراً أن لديه من الرفاق ما يكفي لإنقلاب عسكري ناجح يوليه زمام السلطة في الجزيرة. صحيح أنه لا يتوقع الكثير من المقاومة أو الإكتراث من بقية سكان الجزيرة ، فأغلب الأمور تسير هنا بطيب الخاطر و القصور الذاتي دون أزمة ولا سلطات ، إلا أن خلو الجزيرة من كل ما قد يستهوي من بمثل عمره لم يترك لميخائيل طريقة أخرى لملئ الفراغ سوى التفكير بثورته المستقبلية و التخطيط لها. تاريخ الجزيرة أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أي حرب استنزافية ضدها فكرة لا تقل حماقة عن محاربة روسيا في أراضيها خلال الشتاء. على انقلابه – إن أراد له نجاحاً سلساً – أن يكون خاطفاً ينتهي قبل أن يبدأ ، و يا حبذا لو استطاع منع الخبر من الوصول إلى الحكومة المركزية في باريس. تلك النقطة الأخيرة ليست صعبة كما قد تبدو عليه ، فالجزيرة منقطعة عن العالم الخارجي تماماُ بعد أن رفض شيوخها إدخال أسلاك الإنترنت بحجة الحفاظ على بنيان القلعة التاريخي كما هو. و لأسباب مشابهة تتعلق ب”الحفاظ على المظهر العام العتيق للقلعة و ما جاورها” لا توجد أي أبراج هاتفية على مد البصر ، و بالتالي فهاتفه الخلوي لعبة باهظة الثمن لا أكثر. تلك كلها أعذار واهية برأي ميخائيل ، فكارولينا العجوز – مثلاً – لم تتورع عن تسوية الدرجات أمام منزلها عندما منع الكبر كلبها الأليف من صعودها
عندما يصل التفكير به إلى تلك النقطة يتذكر ميخائيل الثغرة الكبرى و الوحيدة في خطته ، و هي عجزه عن التواصل مع أفراد جيشه الثوري في ليون. يقلب عندها الأمر في باله يمنة و يسرة بحثاً عن حل ثم يعلن أن العقل الجائع لا يفكر و ينصرف ليلحق بالطابور أمام محل عجة بولاغ محاولاً قدر وسعه أن يبدو كسائح أبله كي يختلط بالحشود. إلا أن أنف كلب كالورينا الذي لم يشخ كباقي أعضائه دائماً ما يلحظه ليبلغ تلك الأخيرة بوجوده بأكسل نباح تقوم بالمطلوب لتومئ هي لميخائيل بالقدوم بضحكة تكشف ما تبقى في ثغرها من أسنان ليشاركها الطعام في المطبخ بعيداً عن الحشود. بعد وجبة دسمة حاول فيها ميخائيل – بلا نجاح – تجنيد كارولينا في حشود جيشه الثوري يغادر إلى منزله و قد أنساه الخمول و الخدر جميع أحلامه الإستعمارية ، و أقنعه بأن الانتظار هنا حتى يبلغ من العمر ما يخول له الرحيل أمر معقول ، ثم يأوي للفراش حتى يوقظه ضجيج السياح في اليوم التالي لتبدأ نفس الدائرة من جديد.
قضة جميلة! من الغريب انني شاهدت تقرير قبل عدة اسابيع عن هذه الجزيرة الساحرة و التي لم اكن اعرف عن وجودها؛ و اول ما خطر ببالي هو؛ يا ترى كيف ستكون الحياة على مثل هذه الجزيرة؟ و ها قد جاوبتني 🙂
شكرا!
إعجابإعجاب