
في شتاء 2016م بعثت إلى ميتم في مدينة أراكيبا البيروية في مهمة للحكومة البيروية. بعد انتهاء مهمتي في أراكيبا و مغادرتي نزلي حملت متاعي متجهاً إلى محطة حافلات النقل الجماعي و من ثم إلى كوسكو ، عاصمة بيرو التراثية. و لكن عادتي أن عيني شاردة سريعة الزيغ ، و أنفي و معدتي يحددان دربي أكثر مما يفعل عقلي ، لذا حددت عن طريقي إلى المحطة ما إن شممت رائحة الشواء من عربة يجرها مسن تجد ابنته الخطى وراءه حاملة كرسياً مدوراً تعلوه كلما أرخى عربته.
و كان شواءه ، حفظه الله و هداه ، و جعل الجنة مثواه ، يسيل اللعاب ، و يخلب الألباب ، تقشعر منه الجفون و الأهداب ، و لا يوفي حقه القول و الإطناب. ولع على عربته الفحم ، و علاه بقدر باطنه قد حم ، في جوفه البطاطا و اللحم ، كثير العصير سائل الشحم ، هو غاية المراد و الوحم. استلم الكهل وعاءً في القدر غمس ، و ملأه بما من البطاطا حمس ، و باللحم و المرق رمس ، ثم دفعه نحوي و الإناء دمس.
امتدت يدي إلى اللحم و ملأت به شدقي قبل حتى أن أستلم منه الصحن. بحلق البائع المسن في محاولاً كتم ضحكاته لبرهة تلاها أن مد إلي عصيراً ليقول بإسبانية كستها لكنة سكان الجبال “هاك على حسابي! حذاري أن تغص و تموت على عربتي.”
غمغمت ناثراً البطاطس في كل مكان أن “شكراً عمو” و عدت إلى مهمة حشي الطعام في جوفي و اللحاق بالحافلة قبل أن تفوتني ، و لكن شيخنا كان مصراً على إيناس وحدته بي و تجاهل ابنته ، لذا أكمل الحديث:
“إسبانيتك مريعة يا فتى ، و لولاها لظننتك أحدنا ، سائح أخر أنت إذن؟ أي رياح ساقتك هنا يا هذا؟ هارباً أم ناشداً؟ أساقتك هنا حمى الذهب و أحلام الثراء ككل من سبقوك؟ أتبحث عن إلدورادو؟” كان البائع يعني مدينة الذهب الأسطورية التي أعيت المستكشفين في القرن الماضي ، إلدورادو ، تلك التي سلبت لب القبطان مندوزا في “الأحلام الذهبية” و دفعته لجر اليتيمين إستيبان و زيا معه إلى العالم الجديد سعياً للشهرة و الثراء. رفعت الصحن بيدي اليمنى و أمسكت قطعة لحم كادت تفلت فمي باليسرى لأجيبه: “لا هذا و لا ذاك ، أنا هنا لآكل الأخضر و اليابس.” متجاهلاً إجابتي أو عاجزاً عن فهم إسبانيتي أستمر بالحديث: “تبدو عليك الطيبة يا فتى لذا دعني أوفر عليك العناء ، لن تجد مدينة الذهب مهما حاولت ، فأنت و أقرانك تبحثون في المكان الخاطئ ، و لكني أعرف موقعها ، أتريد أن تعرف؟ أرعني السمع إذن!”
“عماه ، و الله لا يهمني من الذهب إلا ذهاب الطعام إلى معدتي ، قد أزور الماتشو بيتشو في كوسكو و لكن لا علاقة لهذا بالإلدورادو. ألم يتفق الجميع على كونها أسطورة في القرن الماضي على كل حال؟ كم عمرك؟”
و لكن الشيخ كان مصراً لذا استلمني مع كتفيي و أدارني لأواجه المدينة ، و طعامي لا يزال في يدي ، قائلاً: “هذه يا غلام! أراكيبا هي مدينة الذهب إلدورادو! ذهبها قلوب سكانها و طيبتهم ، مياتمها بلا يتامى ، و شوارعها بلا جوعى ، و سجنها الوحيد لا يؤوي إلا السجان. لم يكل عضد سكانها إحتلال الإسبان ولا مجاعة الفئران. إن أردت الثراء و الشهرة حقاً يا فتى فهاك هي ، فكل سكان أراكيبا غني برضاه و بكرم جاره ، شهير بـ…. إلخ”
لا أعرف ما قال الشيخ بعد هذا فقد كنت وصلت من التخمة حداً أثقل سمعي و كاد يزيله ، و لكن إن كان كلامه بمثل طيب طعامه ، فقد أحسن القول.
ألهيت نفسي لفترة بلعق ما التصق بالصحن و بأصابعي من المرق حتى أنهى الشيخ حديثه فشكرته مجدداً و أعدت إليه زجاجة المرطب الفارغة ثم دحرجت جسدي المليء بالدهن و الرضى صوب حافلتي.