ابن ديزني الشريد: بداية و نهاية عالم الأحلام في نارا

بعد أن غادرا كيوتو في أخر أيام رحلتهما حول اليابان على ظهر دراجتيهما اتجه عمر و جستن نحو نارا و هناك اكتشفا ملاهي عالم أحلام نارا المهجورة ، فهاكم بعضاً مما رآه و سمعاه.


نحن الآن في خمسينيات القرن العشرين ، و اليابان قد انتشلت نفسها للتو من ركام الحرب العالمية الثانية و خرجت من قوقعتها لتدخل عهد الثورة الصناعية متناسية عداوتها السابقة مع الولايات المتحدة الأمريكية لتتخذ منها قدوة تنوي تخطيها في القريب العاجل. في تلك الحقبة سافر تاجر ياباني إلى كاليفورنيا ليقف في عالم ديزني و يقرر “هذا بالضبط ما ينقصنا في اليابان!!” كان شعب اليابان وقتها ، برأيه ، يقطع الحاجز الفاصل بين الإخلاص للعمل و بيع الروح للشيطان ، و صار الترفيه عن النفس واجباً قومياً قبل أن تنفك صواميل عقول كل اليابانيين في آن واحد.

كونيزو ماتسو الثاني من يسار الصورة


عاد كونيزو ماتسو إلى اليابان ليمضي العقد التالي من عمره في تحقيق هذا الحلم ، عالم ديزني في نارا ، عاصمة اليابان القديمة ، و بدأ المفاوضات مع ديزني ليصبح وكيلها الحصري في اليابان مقابل أن يقل ميكي و رفاقه و (ِشلة) الأميرات من مطار نارا الدولي و يحبسهم في نارا إلى الأبد. لهذا قد يلاحظ من زار عالم ديزني نسخاً صريحاً بين قلعة الجميلة النائمة في مدخل عالم ديزني الرئيسي و بين حطام ملاهي نارا أعلاه.

مدخل عالم نارا في أوج مجدها


في بادئ الأمر بدت ديزني متحمسة لفكرة كونيزو بل و عرضت عليه تشاطر تكلفة البناء ، مما دفع ذا الأخير لفك جماح أحلامه لتكبر الملاهي ثمانية أضعاف في مخيلته. ثم و بدون أي مقدمات ، انسحبت ديزني من العقد و نصف مباني الملاهي لم تبن بعد. في يومنا هذا يزعم البعض ، من غير فئة القبعات القصديرية إياهم ، أن ديزني جعلت من حلم كونيزو كبش فداء لتختبر ما إن كانت ملاهي بحجم المدن فكرة ستوافق هوى الشعب أم لا. إن نجحت ملاهي نارا فستلقي ديزني بكامل ثقلها في السوق الياباني لتعصر منه ما استطاعت من الربح ، أما إن فشلت فالملام و الخاسر الوحيد هو عائلة ماتسو ولا علاقة لديزني بالأمر.

شارع عالم نارا الرئيسي نسخ واضح لمدخل عالم ديزني و قلعة سيندريلا


متناسياً انسحاب ديزني من العقد و متذكراً عداوته القديمة مع الولايات المتحدة واصل كونيزو مشواره وحيداً مغيراً اسم مشروعه إلى عالم الأحلام في نارا ، و استبدل أميرات ديزني فيه بشخصيات من ابتكاره ، و أحاله إلى نجاح ساحق جذب ملايين الزوار سنوياً في أوج مجده. عالم الأحلام كان ترفيهاً لكامل العائلة ، يضم – بجانب الألعاب التقليدية – حلبة سباق و مضمار تزلج و عدة مسارح و مسابح و فندقاً فخماً لمن شد رحاله إلى نارا من شتى مناطق اليابان وحتى… احم صالة قمار. صالات القمار مستفحلة في اليابان ، تكاد تراها في كل حي في كل مدينة مهما صغرت. و عادة تكون مليئة بالآلات بشكل يدع كل شيء “للحظ” بدلاً عن ألعاب القمار التقليدية من ورق أو ما شابه ، و لا يحيط بها بغض اجتماعي أو تقيدها القوانين كنظيرتها الأمريكية. لذا فوجود صالة قمار في مدينة ترفيهية للأطفال شيء طبيعي.

مكتب البريد و محطة القطار في مدخل مدينة نارا كما شاهدتها

بالطبع سمعت ديزني عن ربح كونيزو الوفير في نارا و سال له لعابهم أغزر من كلب سعادة الأستاذ بافلوف ، لذا و بعد أقل من عقدين على افتتاح عالم الأحلام في نارا غرست ديزني أوتادها في طوكيو لتبدأ ببناء ما سيكون – فعلاً هذه المرة – أول عالم ديزني في اليابان تحت وكيل أخر. رغم هذا ، بقي كونيزو في الساحة لأكثر من عشرة سنين يقارع ديزني السن بالسن بمساعدة نقطتين أساسيتين.

  • أولاً كانت اليابان قد دخلت مرحلة الشغف بألعاب الأركاد Arcade الإلكترونية في منتصف السبعينات و أضافها كونيزو إلى مرافق ملاهيه فوراً مما أطال عمرها بضع سنين
  • و ثانياً بعد المسافة بين طوكيو و نارا النسبي ، ليقسم اليابان شرقاً و غربي بين ديزني و كونيزو.

و لكن زوار عالم الأحلام بدؤوا بالتناقص شيئاً فشيئاً حتى باع كونيزو شركته الأم ، أحلام اليابان ، إلى شركة أخرى في بداية التسعينات لتنتقل ملكية عالم الأحلام كجزء من البيعة. إلا أن هذا لم يوقف تداعي عالم الأحلام ، و استمرت معاناته بصمت لحوالي الثلاثة عشرة سنة حتى افتتحت يونيفيرسال ستوديوز منتجعها في أوساكا بضع خطوات بعيداً عن نارا و عالم الأحلام لتنتزع ما تبقى من رواد ذا الأخير. أغلق عالم الأحلام أبوابه للمرة الأخيرة عام 2006 و منذ ذلك الحين و الغبار و الضرائب تتراكم عليه حتى انتزعت بلدية نارا الملكية من صاحبها و باعتها للمزايد الوحيد الذي لم يحرك بها ساكناً إلى يومنا هذا ، و زيارتنا لها كانت قبل أسبوع من الذكرى العاشرة لإغلاقها.

يتسلل الغطاء النباتي بين فراغات الملاهيحتى صار جزءًا منها

في يومنا هذا ، يضل عالم الأحلام في مكانه بلا حراك و يتلاشى من ذاكرة السكان ببطء حتى يذكرهم به إشاعة – غالباً قوامها الأشباح و القتلة – ولدتها مخيلة مراهق جامح ، و يغذي هذا أن أفواجاً من ضفدع الثور الأمريكي غزت القسم المائي من الملاهي ، و يعرف كل من قابل هذا النوع من الضفادع أن نقيقها أشبه بجرجرة السلاسل و إغلاق الأبواب الصدأة. و أخر هذه الإشاعات يحكي عن جيش من الآليين يجوب الأطلال ، تغذيه الطاقة الشمسية و يصعق كل من حاول إيقافه ليثبت أن مخيلة المراهقين الجامحة ينقصها الابتكار و الواقعية. برغم كل الإشاعات ، أو بسببها ، تضل هذه الأطلال نقطة جذب ل… محبي الأطلال؟ متجاهلين ما يقال عن مداهمات الشرطة المفاجئة و تحميل المقتحمين لوم رسومات جدارية تسبق دخولهم بعدة سنين كعذر لرفع سعر المخالفة. و هو مالم نسمع عنه إلا بعد زيارتنا للأطلال بعدة أيام.


وصلت مع جستن إلى بوابة عالم الأحلام في أخر أيام رحلتنا بين طوكيو و أوساكا. كنا قد غادرنا كيوتو في الصباح الباكر لنصل إلى نارا قبل الظهر بقليل. و رغم ما يقال عن تسوير المكان المحكم إلا أنا وجدنا طريقنا إلى الداخل بسهولة و لم نحتج حتى لأن نترجل عن دراجاتنا. و النظرة الأولى تشي بأننا لم نكن زوار هذا المكان الأوائل ولا الوحيدين ، فأغلب أبوابه قد فتحت غصباً و زجاج أغلب النوافذ مكسور بينما قرر أحدهم أن رمي الكراسي بقوة تكفي لتعليقها بالجدار رياضة أولمبية جديدة. في أحد المباني الرئيسية وجدنا سجلات المقدمين على طلب وظيفة صيفية هنا ، و كلهم من الطلبة ، يعود أقدمها إلى الستينيات. أتسائل ما إن كانت أياكو من مدرسة جينكي الثانوية قد نالت وظيفة المحصلة التي قدمت لها؟ غالباً لا فصاحب السلطة وقع على ملفها بدرجة سبعين من مائة.


داخل الفندق الملحق بالملاهي عدة أزياء تنكرية معلقة بالجدار و فصل دراسي لم يمسح أخر درس من سبورته بعد و عدة ألبومات صور لجنائز أقيمت في هذا الفندق لسبب ما. بينما بدا أن غالب سجلات الملاهي قد نقلت إلى صالة التزلج قبل إغلاقها ، فهي مليئة بالكتب و الصور الضوئية و أشرطة بعناوين مثيرة للريبة مثل “حادثة عائلة آل فلان”. الألعاب في المدينة تشبه ما ستقابله في عالم ديزني من إفعوانيات و دوارات الأحصنة و بيت المرايا و بيت الرعب و ما شابه. و لكن بائت كل محاولاتنا لتشغيل أي من الألعاب بالفشل ، لحسن حظنا في الغالب ، و لكن بعض الزوار السابقين صنعوا ألعابهم الخاصة كهذا الذي صنع أغرب تمثال ممكن ثم شنقه في جرف الحديقة ليسبب رغم أنا لم نقابل أياً من الضفادع المزعومة ، ولا أعرف ما إن كانت الضفادع تتحمل حر شمس الصيف على أي حال.

سقط جستن من دراجته على إثر هذا المشهد

ألا أن الريح أدت واجبها في إضافة قالب من الرعب على المكان كله. فبعد أن دخلنا القلعة التي تترأس المكان سمعنا أصوات خطوات في الطابق العلوي و الذي يعلوه ، لتسبقنا الخطوات بطابق مهما صعدنا حتى وصلنا إلى السطح حيث حيانا نص دموي يقول “أهلاً بكم هنا”. تطوعت الريح أيضاً بدفع عربات الأطفال الزرقاء المتناثرة حول المكان تجاهنا متى ما مررنا بها و بإغلاق كل باب نفتحه ورائنا حتى علقنا داخل بيت الرعب و اضطررنا لإيجاد مخرج أخر مستعملين كشاف دراجة يلفظ أنفاسه الأخيرة. و لأن الريح لم تكفي لإضفاء طابع الرعب على المكان تطوع بعض مرتاديه لصنع دمى من الخشب و الأشرطة اللاصقة ثم حرقها و تركها على كرسي متحرك في قلب المكان.

لكل هذه الأسباب ، و لأن الساعة كانت تقارب الساعة الخامسة حين تواعدنا بترك المكان و إكمال الطريق إلى أوساكا ، تركنا الباب الوحيد الذي لم تبد عليه علامات الاقتحام و غادرنا المكان دونما رجعة. و من يدري ، ربما كان هذا سبب نجاتنا فذاك الباب لم يكن ليترك دون غيره بلا سبب.لنا سكتة قلبية كادت تقلبنا من على دراجاتنا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s