أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟

و معروف أن سياتل هي مدينة المطر ، و لا أعني بهذا غيث سبأ ولا سجيل قوم لوط ، و إنما أغلبه خفي صامت بلا برق ولا رعد يدس عليك القطرة كما يدس طالب مشاكس الطعام في فمه من تحت المنضدة ، فلا يكشف وجوده سوا الرذاذ على زجاج نظارتك. إلا أن تفاوت المطر يغني عن كثافته ، فتكاد لا ترى الشمس إلا مرة في الأسبوع منذ أن يحل الخريف حتى يرحل الربيع ، فتشحب لنقص أشعتها بشرة الجميع حتى يغدوا سكان سياتل شعباً من مصاصي الدماء. و هكذا تكسب سياتل سمعتها في تقبل جميع الأعراق ، فلا فرق بين عربي و لا أعجمي تحت عشرة طبقات من المعاطف الواقية للمطر. و هذه أيضاً إحدى مظاهر سياتل الفريدة ، فيندر أن تجد أياً من سكانها تحت مظلة ، و إنما يكتفي الجميع بالمعاطف ، بل و يستعيبون المظلات معتبرينها علامة على الضعف و مصنفين كل من استعملها ضمن السياح البلهاء. و واقع هذا أن سكان سياتل خسروا حربهم ضد المطر منذ زمن مديد ، و أتعبهم رفع أيديهم علامة الإستسلام حتى صار أحدهم لا يقوى على رفعها لحمل مظلته. و حق لهم ذلك ، فأنت إن رفعت مظلة تبللت قدماك ، و إن ثنيتها بحذاء مضاد للمطر تطرطشت ساقك ، و إن حميت هذا و ذاك اكتشفت أن روحك ذاتها نقعت بالماء منذ سنين. حتى خيل لي فيهم قول السياب:

أتعلمين أي حزن يبعث المطر
و كيف تنشج المزاريب إذا انهمر
و كيف يشعر الوحيد فيه بالضياع
بلا انتهاء – كالدم المراق ، كالجياع
كالحب ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر

مع اعتذاري الخالص لنزع أحاسيسه من سياقها.
إلا أني نشأت على حب كل ما سقط من السماء ، و ما معه من غيث و خضرة ، و على صف القدور على السطوح لجمع مياه المطر ، و زجل امرئ القيس الذي وقف جذلاً مستمتعاً بمطر غدا طوفاناً قلع النخيل و غطى جبل المجيمر كما تغطي العمة رأس صاحبها فقال:

و تيماء لم يترك بها جذع نخلة
ولا أطماً إلا مشيداً بجندل
كأن بثيراً في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة
من السيل و الغثاء فلكة مغزل

فرغم أن المطر هنا لا يجلب معه الخضرة و الربيع ، فالمدينة حققت جميع مراتب الخضرة منذ زمن و لم يعد لأي ماء كان قول في تقديم هذا ولا تأخيره ، إلا جزءاً مني لا يزال يعشقه ، ولا يزال يستحضر مشاعر امرئ القيس على شط السيل ، و لا يزال يحضر صفوفه بين الحين و الآخر مبللاً بلا معطف ليرد على كل من رمقه شزراً بما لن يفهمه و لو ترجم له ، “حديث عهد بربه”.

أضف تعليق